الأردن: متى أصبحت «الوصاية» عبئا؟
التصريحات الأخيرة لنفتالي بينيت رئيس حكومة اليمين الإسرائيلي الهشة أعادت إنتاج هذا المسار البائس في التفكير والتدبير ليس على منصات التواصل أو بعضها فقط ولكن أيضا في مجالسات وسهرات السياسيين
أين «الغمر» حتى أضع حجرا عليه؟
إحدى أكثر المقولات شيوعا بين الأردنيين هي تلك التي تقول «حط على غمرك حجر». والغمر على الأرجح لمن لا يعرفه هو تعبير رمزي عن كومة محصول الشعير وحتى لا تطير الشعيرات يمكنك وضع حجر فوقها.
طبعا المقصود بلغة زراعية هنا أن يصمت من يتحدث ويرتاح ولا يتفلسف.
هي نصيحة تلقيتها من أحدهم تفاعلا مع اقتراحي بأن تتعامل الدولة مع تصريحات نفتالي بينيت باعتبارها إعلان حرب على الوصاية الأردنية.
طبعا لا يشعر الرسميون بأن الأمر ينطوي على إعلان حرب لأن جزءا حيويا منهم ومن المثقفين الليبراليين واليساريين الذين يسترخون في أحضان السلطة وعلى شواطئها مصرون على اعتبار الوصاية بكل الأحوال «عبئا» ينبغي التفكك منه.
صاحب مقولة وضع الحجر على الغمر لديه ما هو أبعد من ذلك والعنوان باختصار هنا يقول: الأردني لا علاقة له بالقدس ولا بالمسجد الأقصى ولا حتى بالشعب الفلسطيني ولا بقضيته لأنه ببساطة أقام اتفاقية سلام مع دولة الاحتلال حسمت فيها مصالحه.
ليس المتفاعل الإلكتروني مع التغريدات فقط من يقول ذلك في الواقع، فمن باب المتابعة اليومية لا أكشف سرا إن قلت بأن نخبة من كبار المسؤولين والموظفين يؤمنون بذلك لا بل يرددونه همسا، وبعضهم يضعون هذه النظرية في التخلي عن القدس والوصاية كخيار استراتيجي وحيد أمام المؤسسة في سلوك هامس ومتسلل وخبيث، يعيد تذكيرنا دوما بما يقوله أو قاله يوما المخضرم زيد الرفاعي وهو يصف بكلمة واحدة من يضع القيادة في أي قضية مهمة أمام خيار استراتيجي واحد.
تلك الكلمة هي «خيانة».
المهم هو أن التصريحات الأخيرة لنفتالي بينيت رئيس حكومة اليمين الإسرائيلي الهشة أعادت إنتاج هذا المسار البائس في التفكير والتدبير ليس على منصات التواصل أو بعضها فقط، ولكن أيضا في مجالسات وسهرات السياسيين.
يمكن إحالة هؤلاء إلى ما يقوله بعض أبرز حكماء الدولة الأردنية وتحديدا من خطط المفاوضات، ابتداء من مدريد وما بعدها.
على سبيل المثال لا الحصر لم يعد سرا أن كبير البيروقراط الأردني وأحد أبرز مهندسي اتفاقية وادي عربة، وهو الدكتور عبد السلام المجالي أطال الله في عمره، تراجع وفقا لرواية سمعتها شخصيا من أصدقاء له عن مقولته الشهيرة «اليوم تم دفن الوطن البديل».
في تلك المراجعة تبين بأن الوطن البديل لم يدفن.
التصريحات الأخيرة لنفتالي بينيت رئيس حكومة اليمين الإسرائيلي الهشة أعادت إنتاج هذا المسار البائس في التفكير والتدبير ليس على منصات التواصل أو بعضها فقط ولكن أيضا في مجالسات وسهرات السياسيين
سياسي من وزن طاهر المصري يعرفه ويحترمه الجميع قال بكل اللهجات وملء الفم وفي كل المناسبات وعلنا، بأن إسرائيل تؤسس لمشروع تصفية القضية الفلسطينية وعلى حساب الأردن والأردنيين.
طوال الوقت كان الراحل الكبير عدنان أبو عودة يبلغني وبالوثائق بأن الإشكال الرئيسي منذ انطلقت المفاوضات فيما يخص الأردن وفلسطين وسلطتها ومنظمتها يتمثل في عدم وجود كفاءات علمية تستطيع قراءة الفكر الصهيوني بحرفية، وبالتالي ثمة نقص كبير فيمن يقرأون الإسرائيلي وخططه ومشاريعه وتطلعاته.
ليس سرا أن مفاوضا وسياسيا ودبلوماسيا يعرفه الجميع أيضا هو الدكتور مروان المعشر أعلنها عدة مرات: «إسرائيل التي وقعت معها اتفاقية وادي عربة ليست إسرائيل اليوم التي انقلبت على الجميع وعملية السلام لم تعد قائمة».
السجل حافل بصراحة بمفاوضين نادمين أو على الأقل يراجعون ما حصل. والسجل حافل أكثر بأبناء الأردن وقياداته المؤمنين بأن هدف المشروع الإسرائيلي ليس حصرا الوطن البديل في الأردن، ولكن قد يكون النظام البديل ايضا… عبد الرؤوف الروابدة مثلا.
لم نتحدث هنا عن انتهاكات إسرائيل الدائمة لمعاهدة وادي عربة والتي جعلتها مجرد أوراق مبعثرة لا قيمة لها. ولن نتحدث عن انتهاكات العمق الإسرائيلي ومحاولات الانتهاك المتكررة ليس فقط للوصاية في القدس. ولكن أيضا للسيادة في الأردن بين الحين والآخر، بما في ذلك قتل مواطنين أردنيين، بينهم قضاة بدم بارد على الجسور، وحتى قتل مواطنين أردنيين بدم أبرد في مكاتب سفارة العدو في عمان، حتى لا نتحدث عن محاولة اغتيال خالد مشعل الشهيرة، وذلك المعول الذي حمله بنيامين نتنياهو وهو يزرع شتلة التطرف المجنون تماما عند الحد الفاصل في منطقة الأغوار. السجل حافل تماما باعتداء الإسرائيليين على الأردن والأردنيين وليس على الشعب الفلسطيني فقط.
قلناها سابقا ونعيدها جبال نابلس أصلا محتلة وعين الاحتلال على جبال السلط. القدس أصلا محتلة لكن المستوطنات في محيط جبل الخليل تستهدف إخضاع عمان ومكة وأبوظبي وبغداد والقاهرة.
أي غفران يرتجى لمن يتحدثون عن معاهدة سلام بعد كل هذه الانتهاكات؟
أي غفران يرتجى لمن يتحدثون عن الوصاية باعتبارها عبئا سياسيا لا أكثر وهم يسترسلون في تقمص حالة غبية اسمها التصالح مع إسرائيل.
باختصار وفي الخلاصة: أين الغمر حتى أضع الحجر عليه؟