اراء و مقالات

الأردن… وضرورة تجاوز مرحلة الدولة الرعوية

في الدولة التي لا يمكن وصفها بدولة قائمة على نظام رعوي لا مكان للمحاصصة في تبادل الوظائف وإعادة تدوير المناصب والنخب، ولا مكان لتقويض النقابات المهنية وإخراج الأحزاب السياسية عن سكتها

لا شكوك بأن إنقاذ مستقبل الأردنيين يتطلب فعلا وحقا ودوما إعادة إنتاج قواعد العلاقة بين المواطن والدولة بمعنى تجاوز مرحلة الدولة «الرعوية» باتجاه دولة مدنية حقيقية تستند على تراث من الشرعية الدينية والأخلاقية والاجتماعية إضافة إلى شرعية المنجز.
نتحدث هنا عن تلك الدولة التي وردت بالنص في ثلاث أوراق نقاشية ملكية وعن دولة تتجاوز الحالة الريعية بالتأكيد باتجاه دولة المؤسسات والقانون والعلاقة المنظمة والتي لا تقبل الصدفة ولا الري بالتنقيط ولا التقسيط في سياق الحقوق والواجبات.
مجددا وللتأكيد لا شكوك إطلاقا بأن ما يسميه المعارض مراد العضايلة بالوطن المصاب بالسرطان الشفاء له من الداء مرهون بالتخلص من النظام الريعي. لكن السؤال هو كيف يتم ذلك ومتى وأين بصورة محددة؟
أي محاولة أو مشروع أو اقتراح بإعادة إنتاج العلاقة بمعنى تجاوز الحالة الريعية بدون التأسيس الحقيقي للبديل وبدون العمل عبر مؤسسات وقانون ستبقى محاولة فيها من اللف والدوران والمراوغة ما يسترسل في تضليل القيادة والرأي العام معا.
أي محاولة للحديث الآن عن التخلص من الدولة الريعية أو إعادة إنتاج العلاقة مع الرعية والمواطنين بدون أسس علمية ومنهجية ودستورية وتعديلات وتشريعات قانونية تليق بهذا الطموح في المئوية الثانية للدولة سيكون أقرب إلى انقلاب مباغت على الشعب إذا لم تراع الاشتراطات والقيود الحقيقية التي تقول بأن الدولة تتجه فعلا نحو التخلص من النظام الريعي ليس بالكلام ولا بالألفاظ ولا بعزف الموسيقى والأناشيد، ولكن في بناء بنية تحتية لدولة عصرية تعتمد على مبادئ الإنتاج وتصلح الأخطاء بذاتها ضمن ميكانيزم خبرة العالم، ولا نخترع العجلة إذا قلنا إنه اختبر في كل شعوب الأرض وهو المعيار الديمقراطي. لا نصدق تلك الانتقادات اللفظية التي تتحدث عن دلع المواطن الأردني.
ولا يمكن تسويق تلك الرواية الرسمية التي تدور في الكثير من أروقة القرار التنفيذي والاستشاري بعنوان إصرار المواطن على الدولة الريعية، وبالتالي حتى لا نسترسل في خديعة أنفسنا لابد من تسمية الأشياء كما هي، ووضع النقاط حول الحروف، فالدولة لا تستطيع بين ليلة وضحاها الانقلاب على الرعية وتحويلهم إلى رعايا بمصير وحاضر مجهولين.

في الدولة التي لا يمكن وصفها بدولة قائمة على نظام رعوي لا مكان للمحاصصة في تبادل الوظائف وإعادة تدوير المناصب والنخب، ولا مكان لتقويض النقابات المهنية وإخراج الأحزاب السياسية عن سكتها

والدول التي تريد الانتقال من النظام الريعي وإعادة تنميط وتأطير علاقة منتجة بين المواطن والدولة بصفتها ممثلة للقانون هي الدولة التي تتعامل بجدية وعمق مع خطوات في هذا الاتجاه، وتوفر بديلا للناس في مرحلة انتقالية متفق عليها مسبقا، ليس قوامها ما يسمى فقط تحديث المنظومة السياسية والعمل على تسمين أحزاب جديدة تنضم إلى متحف الأحزاب القديمة أو العمل على مفاهيم غير واضحة، وفيها ما يكفي من الغموض باسم التمكين الاقتصادي بل العمل الجدي على مرحلة انتقالية، يبلغ فيها الناس ضمنيا بأن تحولات أساسية أصبحت مطلوبة من أجل مصلحتهم. وهي تحولات يجب أن تنسجم الدولة معها وتقدم لها قبل أن تفرضها.
باختصار وبالخلاصة من يشتكي من ريعية الدولة الآن ينبغي له أن يفهم مسبقا بأن الدولة العصرية لا مكان فيها للعبث بالانتخابات لا تزويرا ولا هندسة، وأن الدولة المدنية، التمثيل فيها حقيقي وليس مفبركا وليس تدجيلا، وأن المعادلة التي ينبغي أن يفهمها الجميع هو الخدمة مقابل الضريبة وأن حقوق وواجبات المواطنين وحقوق وواجبات الدولة بالمقابل مفهومة مسبقا لا بل تنظمها نصوص القوانين التي لا تتميز بأنها اعتباطية أو مرنة جدا أو تتغير بسرعة أو حتى قابلة للتأويل.
في الدولة التي لا يمكن وصفها بدولة قائمة على نظام رعوي لا مكان للمحاصصة في تبادل الوظائف وإعادة تدوير المناصب والنخب، ولا مكان لتقويض النقابات المهنية وإخراج الأحزاب السياسية، شكلا ومضمونا، عن سكتها واستهداف حريات التعبير أو للتشاطر في العبث مع العشائر، ولا مكان لشيء لاعتقال خارج القانون أو توقيف احترازي.
في الدولة غير الريعية لا مكان للكثير من الأشياء التي نقرأها ونسمعها اليوم، لأن العلاقات منظمة بموجب القانون وبموجب تداول السلطة، ولأن الناس ينتخبون وزراءهم ومن يمثلهم في البرلمان ولا يتم تعيينهم عبر غرف العمليات وبناء على نظام محاصصة مريض مختل موروث من أيام الدولة العثمانية، لا أحد يفهمه الآن ويمكن انتهاك قواعده بكل بساطة.
نصفق لكل سياسي أو من تبقى من مثقفين في النظام السياسي ونحن نسمعهم يتحدثون عن ضرورة الانتقال إلى الدولة الإنتاجية، لكن على هؤلاء أن يكونوا صادقين مع أنفسهم لأن مشروعا وطنيا مطلوبا يؤسس للمستقبل من هذا النوع ينبغي أن يحظى بمرحلة انتقالية وليس من المعقول أن تقرر الدولة حصرا بعد عامي الفايروس كورونا، وفي ظل أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة الانقلاب على الناس والمواطنين بحجة أن الدولة ينبغي أن لا تبقى رعوية.
هذا ليس وقت الانتقال واليوم هو وقت تضامن الدولة وظهورها لحماية المواطن بعيدا عن «فصام الريعية».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى