الأردن بعد «الحظر»: الإسلاميون في ميزان الدولة… كيف يمكن تجاوز أزمة أكبر؟

عمان ـ «القدس العربي»:اللياقة المرجعية كانت ظاهرة تماما من اللحظة المشحونة التي أشار خلالها الملك عبدالله الثاني قبل عدة أسابيع لـ«مواطنين أردنيين يتلقون تعليمات من الخارج».
بانزعاج مشحون أضاف الملك «عيب عليهم».
تلك الملحوظة «الملكية» تصدرت التحليل والتوقع والمجالسات لعدة أيام، ليس لأنها ملحوظة رصدت بعد عودة الملك من رحلة صعبة معقدة إلى واشنطن، دافع خلالها في مواجهة الرئيس دونالد ترامب عن ثوابت المملكة «ضد التهجير»، ولكن لأن الملحوظة قيلت في لقاء خاص مع «رفاق السلاح» من المتقاعدين العسكريين.
الفريق المتقاعد والخبير قاصد محمود كان أول من التقط «رسالة ما» من وراء ملحوظة القصر حين سارع وأبلغ «القدس العربي»: «الأمر مهم وكبير» لأن «القائد» يتطرق فيه لمثل تلك الملحوظة في لقاء مع «رفاقه العسكر» حيث تختلف اللقاءات مع المتقاعدين العسكريين في الدلالة والمبنى والمعنى عن غيرها.
وقتها شدد الجنرال محمود على أن واجب الحكومة والأجهزة المختصة تجنب ترك المسألة للتكهنات والمبادرة للتحرك وتحديد من هم هؤلاء المواطنون؟ ما الذي فعلوه؟ وما هي الحكاية؟
المؤسسة المرجعية أطلقت آنذاك تلك الإشارة وتجنبت التفاصيل، فيما تبين الآن أن المسألة تركت للمستويات المختصة ولإكمال التحقيقات بمهنية قدر الامكان.
خفايا الحظر
بعد خمسة أسابيع تقريبا من عبارة «عيب عليكم» الشهيرة، انطلقت سلسلة من الأحداث الدراماتيكية على صعيد: أولا- دفاع الدولة عن سيادتها، وثانيا- تراكم الأحداث وصولا إلى قرار في غاية الأهمية عنوانه «حظر جماعة الإخوان المسلمين» العريقة صاحبة الحضور الأعمق اجتماعيا.
في كل بساطة وبالتسلسل صدر بيان أمني يشرح بعض تفاصيل القبض على ما وصفه الجنرال المتقاعد محمد صمادي بـ«شبكة وليس خلية» حيث 16 متهما قالت السلطات إنهم تورطوا في التخطيط لأعمال تخريب مادي داخل الأراضي الأردنية.
لاحقا صدر بيان حكومي يتحدث عن 16 معتقلا معظمهم من جماعة «غير مرخصة»، ثم اعترافات متلفزة لـ4 متهمين في سابقة جرمية اسمها «محاولة تصنيع أسلحة» في الأردن، قبل أن يتخذ القرار الأكثر حسما بـ«حظر شامل» لجماعة الإخوان المسلمين ومداهمة مقراتها ومصادرة أملاكها ووضعها تحت الوصاية، ليس بناء على خلية تصنيع الأسلحة ولكن تطبيقا لقرار القضاء الأردني الذي قرر عام 2000 بأن الجماعة «منحلة» ولا يوجد لها جسم قانوني لأنها أخفقت في تصويب أوضاعها بموجب قانون الجمعيات الخيرية.
خلال ساعات قليلة دخل مجلس النواب على الخط وانتقد بشدة أداء حزب جبهة العمل الإسلامي المقرب من الجماعة المحظورة، ثم تتابعت سلسلة من التطورات حيث تحقيقات واعتقالات وملفات تحقيق مفتوحة على كل الاحتمالات وأبرزها سيناريو تورط الحزب، بعد ما استفسرت الهيئة المستقلة لإدارة الانتخابات منه عن «3 أسماء» بين المتهمين تبين أنهم مسجلون في كشوفات عضوية الحزب.
لذلك بقيت ومع دخول أزمة حظر التيار الإخواني أسبوعها الثالث دائرة الخيارات مفتوحة تماما في التصعيد والتأزيم، أيضا في المرونة وإظهار المسؤولية الوطنية، حيث يقدر رئيس مجلس النواب أحمد الصفدي في نقاش مع «القدس العربي» بأن على الجميع إدراك الفهم المسبق بأن الإفتئات على الدولة محرم وممنوع وستتصدى له دولة المؤسسات وعلى رأسها مؤسسة مجلس النواب.
الحزب-والكتلة
في منطقة أقرب من تطورات الحدث يتموقع مجلس النواب في منطقة وسطية، متحفزا وملتقطا بعض الإشارات من هنا وهناك، وما اقترحه على «الزملاء في التيار الإسلامي من نواب وغيرهم» النائب النشط عبدالناصر الخصاونة عبر «القدس العربي» هو الانتباه لأن الإسلاميين ليسوا وحدهم في الساحة والتمثيل والمشهد والشعب.
تحدث الصفدي علنا عن رفض «الإستقواء» على الدولة، وتحدث الخصاونة عن التصدي لأي مساس بهيبة الدولة أو ممارسة الغرور على المؤسسات، فيما يتوقع ويتحدث الجميع هذه الأيام عن الصفحات المتبقية في أزمة الصدام غير المسبوق مع التيارات الإخوانية وسط اقتناص حالة لا يمكن إلا رصدها تشير إلى أن الخلاف والصدام والأزمة انتهيا الآن بردود فعل وتعليقات تتجاوز «الحيثية الوطنية والقانونية».
الكاتب والسياسي والبرلماني الأردني البارز جميل النمري قال لـ«القدس العربي» مؤخرا إنه ومن باب «الخصومة السياسية والأيديولوجية» مع التيار الإخواني لا يمكنه الموافقة على حفلة «الوناسة» والنميمة التي حملت عناوين محرضة أهمها الاستغلال في فرصة لتصفية الحسابات مع التيار الإسلامي، مفرقا بين الخصومة التنافسية الشريفة مع الإسلاميين والإطار القانوني لأي إجراءات، وبين بعض ما يقرأ ويتلى في الساحة الآن بعناوين تتقمص الرأي والرأي الآخر.
تظهر نقاشات الأردنيين «المنفلتة» لاحقا لقرارات الحظر أن الإطار المرجعي بقي هو جوهر النقاش المعتدل الحكيم، فالخطاب المرجعي وجه ملحوظة «عيب عليهم» لنفر من «مواطنين أردنيين» في نهاية المطاف، ما شكل بداية لإنطلاق بقية الإجراءات بعد تزامن مقصود اكملت فيه أول رسالة آخر الرسائل في هيبة القانون ودولة المؤسسات كما قال وزير الاتصال الناطق الرسمي الدكتور محمد مومني.
منذ رصدت عبارة «تلقي توجيهات خارجية…عيب» تشكلت انطباعات أولى بأن الدولة بصدد فتح باب المراجعة مع مؤسسات الحركة الإسلامية وفي منطقة «سيادية»، مسؤول بارز كان يبلغ «القدس العربي» بأن أي إجراءات ستتخذ في إطار القانون.
لذلك بدأت القضية من «عيب عليهم» وانتهت بإنفاذ الجانب القانوني وقرارات الحظر، فيما قضية «التجنيد والتدريب في الخارج لتصنيع الأسلحة» في ظل سلطة المحكمة والقضاء الآن ولأنها قضية منظورة قضائيا، لا يجيز القانون أي نقاش والتحدث عنها.
قبل واقعة «تصنيع الأسلحة» كانت مناخات العلاقة مع الإسلاميين «أهدأ قليلا».
لكن الأزمة موجودة وبعمق من أيام «حراك نقابة المعلمين» وما بدا عليه الأمر أن الأطر الرسمية تكافئ معتدلي الحركة الإسلامية الذين شاركوا بإيجابية في اللجنة الملكية للتحديث السياسي وبـ3 مقاعد بالإصرار على تجاوز الحسابات الضيقة وضمانة انتخابات نزيهة ونقية تماما، توجها الإسلاميون بـ31 مقعدا في البرلمان لأول مرة في تاريخهم السياسي.
نتائج الانتخابات تأثرت بوضوح – سمح لها بذلك ـ بمعركة 7 أكتوبر وتداعياتها وزخم مشاركة التيار الإسلامي بالتظاهرات المحلية التي تصدرت على المستوى العربي حتى ارتكب ممثلون لحركة حماس الخطأ الأول في المواصفات والمقاييس الأردنية وتمثل في مخاطبة الشعب الأردني مباشرة وبإسم عشائره ومطالبته بالتوجه إلى منطقة «الأغوار».
هنا كانت جزئية إقامة فعاليات في الأغوار «نقطة تماس» مباشرة مع الحركة الإخوانية، حيث أصرت عدة مرات وقابلها عناد ملموس مع إجراءات أمنية تمنع الاقتراب من حدود فلسطين المحتلة قبل أن تولد خلافات مرتبطة بالتظاهر على بوابات السفارات الأجنبية.
في الشارع وتحت قبة البرلمان رصدت «مماحكات» الإسلاميين والحكومة على أكثر من صعيد وبأكثر من صيغة، ووصف رئيس النواب أحمد الصفدي بعض المداخلات التشريعية للإسلاميين بأنها «مستفزة وغير ضرورية وأحيانا مغرورة أو تسعى لصنع مشكلة».
لماذا اتخذت السلطات قرار «الحظر»؟ هذا سؤال احتار مراقبون في التوصل إلى إجابة مقنعة عليه في عمان.
لكن الإجابة تتضمن «جردة حساب» سمعتها «القدس العربي» مباشرة من عدة مراجع على مستوى المؤسسة الرسمية.
الرواية هنا تقول: حظرت حركة الإخوان بعد سلسلة طويلة من تجاهلها نصائح من كبار رجال الدولة حاولت إقناعها بالتقدم بخطاب معتدل في إطار التشريع وفي إطار لعبة السياسة والشارع تجنبا لإحراج حسابات وتوازنات الدولة.
صادقت شخصيتان بارزتان على جزئية «تجاهل النصائح» في تعبيرات مباشرة بحضور «القدس العربي»، حيث قال رئيس مجلس الأعيان المخضرم فيصل الفايز «لا يصغون لنصائحنا» وألمح رئيس النواب الصفدي إلى قراءة مماثلة.
سلوكيات التيار الإسلامي في الشارع ومحاولته التصعيد في الهتافات وإصراره على التظاهر في مناطق حساسة، ثم المناكفات التشريعية، ساهمت في تحويل ملف التيار إلى أمني بعد ما حاول الجميع دفعه باتجاه «السياسي».
استنادا إلى تشخيص البرلمانيين ومنهم النائب عبد الناصر خصاونة تحديدا، رفضت حركة الإخوان إدانة التصرفات التي أدت إلى اعتقال خلية الـ16 وظهر ذلك الرفض من خلال البيان الذي أصدرته الجماعة وكان آخر بياناتها ولم يتطرق لاستنكار أو إدانة ما فعله هؤلاء بالدليل والبرهان، وبعد ضبط محاولات لتصنيع الأسلحة والمقذوفات داخل الأراضي الأردنية ومرتين على الأقل ومن بينها مرة قبل عدة ساعات فقط من المؤتمر الصحافي لوزير الداخلية الذي أعلن إجراءات الحظر.
يتضح هنا أن دوائر القرار انزعجت جدا من إصرار الجماعة على التحدث أولا عن سلوكيات فردية بخصوص المتهمين، ثم تجنب استنكار ما فعلوه أو الجريمة التي خططوا لارتكابها خلافا لقوانين متعددة في البلاد من بينها قانون مكافحة الأعمال الإرهابية وقانون العقوبات.
طبعا حزب جبهة العمل الإسلامي بدوره لجأ لصيغة حذرة في نفس الإطار.
ورأت السلطات الرسمية أن بيانات التيار حاولت تبرير الأفعال وليس إدانتها أو استنكارها، وهو الأمر الذي اعتبر في غاية الاستفزاز، والصمت عليه أو السكوت عنه قد يلحق ضررا بالغا بإستراتيجية الأمن الوطني الداخلي.
نصح كثيرون مؤسسات التيار بإصدار بيانات معتدلة أكثر، واستمر المشهد في التصعيد قبل ساعات من إعلان قرار الحظر حتى صدر بيان حركة حماس الشهير الذي قدم مساهمة فعالة في «تسريع قرارات الحظر».
حقق بيان حماس نسبة اعتراض مرتفعة جدا في أروقة الدولة الأردنية، وانطوى على تدخل مباشر غير مسبوق في الشأن الداخلي الأردني من قبل قيادة حركة حماس التي طالبت بالإفراج عن المتهمين فورا في لغة لم يسبق أن تقبلتها الحكومة الأردنية، خلافا لاعتبارها لهجة وعظية غير محببة وتؤدي لتدخل في شؤون القضاء الأردني.
الواضح سياسيا أن بيان حركة حماس نتجت عنه معدلات قياسية من الانزعاج، خصوصا وأن مضمونه لم يكن يماثل مضامين بيانات وتصريحات أخرى، وتردد وسط الصالونات السياسية عموما بأن البيان الحمساوي لعب دورا في مسار الأحداث وحصرا في مسار التشدد الإجرائي خصوصا وأنه قرأ باعتباره محاولة للتشكيك بالرواية الرسمية.
والواضح أيضا أن المكون الإخواني على مستوى القواعد والكوادر أصيب بالصدمة من شدة وشمولية الإجراءات ما أدى وفقا لمصادر في التيار الإسلامي إلى حالة شلل على المستوى التنظيمي، وهو ما يفسر النقاش المثار عندما تنازل الشيخ مراد عضايلة عن لقبه التنظيمي مبكرا وعبر صفحته التواصلية، ما أنتج داخليا تساؤلات ولاحقا حالة تشكيك وإقرار بأن الأحوال تغيرت وتبدلت، وبأن الفرصة اليتيمة المتبقية قد تكون مساعدة حزب جبهة العمل الإسلامي على الثبات والبقاء ثم الانضمام إليه.
إصرار السلطات والحكومة على الغطاء القانوني المفصل لكل إجراء، قدم بدوره مساهمة نشطة في إعلان أكثر من قيادي في الحركة الإسلامية الامتثال والخضوع للمظلة القانونية، وقد رصدت ثقافة السلوك الهادئ غير المتحدي والتي تدفع باتجاه تقبل التغيير والتعاطي معه في تعليقات عدة شخصيات محورية حاولت التدخل، من بينها المخضرم الشيخ حمزة منصور، ولاحقا الأمين العام الحالي لحزب جبهة العمل المهندس وائل السقا، وعضو البرلمان الخبير محمد عقل، فيما تردد أن عدة قيادات في الأثناء تحمل تيار الصقور مسؤولية ما آلت إليه الأمور في حاجز سببه خلافات سابقة لم يعد من السهل إنكار تأثيرها بعد كل ما حصل.
والتحليلات الأولية تشير إلى أن جنوح بعض الكوادر لتحضيرات يقال إنها لدعم المقاومة في فلسطين وغزة اصطدم بالمعيار الأمني الرسمي، ونتج أساسا عن أيديولوجيا ترى بأن الأردن عموما جزء من معركة الطوفان، أو يتوجب أن يصبح طرفا في المعادلة، وهي حالة فكرية عمليا اصطدمت تماما بخيارات الدولة التي لا تستطيع الصمت والتمرير بسبب الكلف العالية جدا لأي تساهل في السياق على الأمن الوطني والأمن الحدودي واحتمالات الإخلال بمعادلة اليمين الإسرائيلي وتقديم مسوغات ومبررات له حتى يضم الجبهة الأردنية إلى خططه العدائية والعابثة.
بعيدا عن التكهن والتحليل، الإجراءات استمرت وبدا أن الحكومة مصرة على تطبيق كل المعايير التي تعتمد على الإطار القانوني ما دفع باتجاه السيطرة على المقرات والمكاتب وتفتيش مقر رئيسي لحزب الجبهة أيضا، ثم اعتقالات بعضها إحترازي وبعضها الآخر مرتبط بتطورات التحقيق، خلافا طبعا للسيطرة على وثائق مالية حصرا قد تكشف النقاب لاحقا عن المزيد من التفاصيل وينتج عنها أساسا التقدم باتهامات ومخالفات جديدة.
سؤال المستقبل
عموما تخيل الشارع السياسي والشعبي الأردني بدون أقدم وأضخم تعبيراته الميدانية صفحة جديدة يرى مراقبون وجوب التعامل معها بأقصى طاقات الانتباه، وفيما الحركة الإخوانية نفسها تعيش حالة مستجدة في عمق المعادلة القانونية والسياسية والاجتماعية عليها هضمها بتجنب المزيد من التأزيم، تحتاج الحكومة بالمقابل إلى تأطير شرعي لهوية الإسلام السياسي، والحرص على عدم الإنجراف لتأزيم مقابل يستند إلى الاستئصال التام حفاظا على خيط رقيق ودقيق من العلاقة يخدم التواصل مستقبلا.
هل يمكن للأمر أن يحصل على النحو المشار إليه؟
سؤال مطروح ومهم وكبير لا يمكن التنبؤ بإجابة مقنعة عليه إلا بعد انتهاء التحقيقات المعمقة خصوصا وأن السلطات القضائية حظرت النشر تماما في الجزء القضائي من ملف خلية التصنيع، وعزلته قانونيا عن الجدل السياسي أو الشعبي مما يبقي السؤال عالقا في مساره السياسي بالدرجة الأولى.