اراء و مقالات

الأردن: سيناريو «الفتنة – المؤامرة» إلى «التحجيم والتقليص» المنتج

عمان – «القدس العربي»: لا تزال قضية الفتنة في الأردن تحكم مسارات النقاش، وإن كان بطريقة أقل حدة بعد إخلاء سبيل غالبية المتهمين، فيما لا تحظى الرواية الرسمية بعد بالتقدير الذي تستحقه، خصوصاً على منصات التواصل الاجتماعي.
يقر مسؤول بارز جداً أمام «القدس العربي» بأن الجزء الأساسي من رفض المخيلة الشعبية للسيناريو الذي رسمه مسؤولون في الحكومة من بداية أزمة الفتنة، مثل وزير الخارجية أيمن الصفدي، كان له علاقة مباشرة بأزمة أشمل يثبتها ما حصل مؤخراً ولا ينفيها، وهي أزمة مصداقية الخطاب الرسمي عند الناس.
مثل هذا الإقرار ضروري جداً، لا بل مفيد؛ لأن السلطة اليوم معنية بقياس حجمها عند الرأي العام، خصوصاً وأن محللاً سياسياً وصحفياً بارزاً مثل عريب الرنتاوي، يصر على التحذير من المبالغة في الاحتفال بما سمي التضامن الدولي بعد الفتنة على حساب الداخل الأردني.
حتى رئيس الوزراء الدكتور بشر الخصاونة، وفي نقاشات على الهامش مع «القدس العربي» يبدو مقتنعاً تماماً بأن الالتفات إلى الداخل دوماً هو الأساس، فالمشهد يحتاج إلى إعادة بناء تصورات إصلاح متوازية في كل المسارات، وخصوصاً الإدارية والسياسية والاقتصادية.
مع بقاء روافع أزمة المصداقية المشار إليها، يخضع سيناريو المؤامرة والفتنة إلى عملية « تقليص» مرسومة تساعد بالتأكيد في احتواء التجاذبات الاجتماعية التي نتجت عنها، لكنها تطرح في المقابل بعض الأسئلة الحرجة في الباطن والتي تحتاج إلى أجوبة صريحة وقد تكون أحياناً مؤلمة. فقد بدأت الفتنة بعملية أمنية كانت غامضة سرعان ما سمّتها مبالغة بعض الصحف الدولية بانقلاب، ثم تقلصت إلى مؤامرة بالنص الرسمي، وأصبحت لاحقاً في النص الملكي فتنة تم وأدها. ولم تتقلص الآن التسمية والمصطلحات، فقد وفرت المرجعية المؤسسية الغطاء لعزل ملف ولي العهد السابق حمزة بن الحسين ضمن سياقات الشأن العائلي الداخلي.
ولوحظ هنا بأن نخبة من كبار المسؤولين رغم ذلك أصروا في سرد الرواية على التأشير في اتجاه الأمير باعتباره صاحب دور مفصلي في الفتنة نفسها، وهو ترتيب ما كان يمكن أن يبرز دون أضواء خضراء؛ لأن الأمير في الرواية الحكومية على الأقل يشكل المادة الدسمة التي تبرر كل ما حصل.
احتاجت السلطات لرواية تقولها للناس ولسبب بسيط، فطبيعة التمثيل الاجتماعي والمكوناتي لكل من اعتقلوا بسبب تلك الفتنة واسعة قليلاً، وبالتالي يتطلب الأمر رواية والصمود عند تفاصيلها، لأن على الحكومة أن تقول شيئاً للناس، فجميع الأردنيين خلف قيادتهم بالضرورة.
وجميعهم دون استثناء، مع مؤسساتهم كما يؤكد لـ»القدس العربي» مباشرة القطب البرلماني خليل عطية، معتبراً أن الشعب الأردني أيضاً مهتم ومعني بمعرفة تفاصيل ما حدث وتعريف خصومه جراء الصدمة التي تسببت بها مسارات الأحداث. لاحقاً تقلصت مساحة المتهمين، فأخلي سبيل 16 منهم من أبناء العشائر والتكوينات الاجتماعية في عملية مبضعية جراحية مهمة تحت عنوان الصفح الهاشمي، مع أن إخلاء السبيل هنا خطوة نبيلة ورمضانية الطابع التسامحي، والتقطها المجتمع بارتياح، إلا أن صيغة الإفراج عن المتهمين لا تنهي الاتهام ولا تزيل القضية من قنوات التحقيق القانوني والقضائي.
يتحدث أقارب المخلى سبيلهم من «المغرر بهم» عن ذلك، لأن صيغة الإفراج أو إخلاء السبيل كان فيها بعد سياسي له علاقة بكيفية التقاط أجهزة التحقيق لمبادرة ملكية يفترض أن تساعد الحكومة والسلطات في احتواء الجدل أصلاً.
التقط محامون لمن تبقى من المتهمين تلك الفوارق، فها هو علاء الخصاونة محامي المتهم البارز حسن بن زيد في القضية، يشكر مبادرة الصفح الملكي الهاشمي، كما وصفها رئيس الوزراء الأردني بدوره وبحضور «القدس العربي».
لكن الخصاونة المحامي يعتبر علناً بأن النيابة اجتهدت في إخلاء السبيل واستثنت اثنين من المتهمين في نفس القضية، بصورة تنطوي على ما سمّاه بـ»حكم مسبق».
طبيعي أن ينحاز محام ناشط إلى موكله ويلعب على أوتار التسييس، لكن بنفس الوقت تحاول الرواية الحكومية الإجابة على التساؤل الذي يطرحه الخصاونة بصيغة قد لا تكون مقنعة تماماً، مفصلها الجوهري هو الحجم والمركز القانوني الذي يفرق بين أشخاص غرر بهم وأشخاص ارتكبوا مخالفات قانونية كبيرة، بحيث إن العدالة قد تتطلب بقاء المتهمين الأكبر، وهما بن زيد، والدكتور باسم عوض الله.
تلك طبعاً رواية حكومية متراكمة على سلسلة روايات تنسلخ عن سيناريو المؤامرة بين الحين والآخر، وبطريقة منفلتة، فواجب السلطات التنفيذية والسياسية التبرير، وحجم الصدمة والألم المرجعي متفاوت في خارطة المتهمين، والأدوار ليست بحجم بعضها.
لا يبدو أن التبرير الرسمي هنا مقنع لجميع الأطراف، خصوصاً أن السؤال المركزي في القضية لا يزال مرسوماً على شغف الجمهور، فحتى اللحظة تتزاحم الاجتهادات والتصريحات، ولا أحد يكشف بصورة محددة عن من فعل ماذا وبأمر من، ومن في قضية المؤامرة – الصدمة؟
وتلك حصة تترك لعدالة المحكمة وسلطة القضاء.
في المقابل، رصد عملية تقليص حجم وأهمية المؤامرة وإزالة كل عناصر الجهات الخارجية فيها واتخاذ خطوات على قدر احتواء التشنج الاجتماعي أو العشائري وبطريقة مرسومة وعميقة، كلها عناصر تفيد ضمنياً بأن المسألة عندما كشف النقاب عنها تم تضخيمها أو تذخيرها بمادة دسمة جعلت كل المشهد الأردني بكل تفاصيله تحت الأضواء الكاشفة والساطعة للإعلام الغربي.
من البداية، قالت «القدس العربي» بعدم حصول انقلابات في الأردن. ومن البداية، أشارت الوقائع لعملية أمنية مهنية ليس بالضرورة أن تنتهي وفق سيناريو منضبط عندما تصل للمحكمة والقضاء. بالتوازي، ومن البداية أيضاً، كان واضحاً أن النتائج انتهت بسلسلة مخاسر سياسية وإعلامية محرجة وبسلسلة مكاسب أيضاً.
وفي الاستخلاص النهائي، يمكن القول بأن ملف الفتنة -رغم موسم التخفيضات وتقليصها وتحجيمها- لا يزال مفتوحاً في الواقع السياسي والمصلحي، وتلك واحدة من أهم الكلف.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى