أيهما سبق الآخر في «التحديث السياسي»: الأحزاب أم العشائر الأردنية؟
«مسار يبدأ بتخصيص 41 مقعداً من أصل 138 للقوائم الحزبية»
عمان ـ «القدس العربي»: ما قاله مؤخراً وزير التنمية السياسية في الحكومة الأردنية حديثة الخريشة بسيط ومباشر وواضح ولا يقبل «أي تأويل» وهو يتحدث عن برلمان 2024 الذي سينتخب يوم 10 أيلول/سبتمبر.
«مقاعد الأحزاب في القانون الجديد لم تكن مقاعد للعشائر، ومجلس النواب ليس مجلساً عشائرياً وليس مجلساً للعشائر، بل هو مجلس سياسي برامجي تشريعي رقابي».
لفت الوزير وبجرأة مباشرة، نظر الجميع إلى هذه «الحقيقة الواقعية» لأن مسار تحديث المنظومة السياسية يبدأ بتخصيص 41 مقعداً من أصل 138 للقوائم الحزبية العامة في الانتخابات الوشيكة، ثم تزيد النسبة وصولاً إلى 100 ٪ مقاعد حزبية بعد دورتين ما لم تحصل «انتكاسة ما» تعيد الأمور «إلى ما كانت عليه».
في رأي رئيس مجلس النواب السابق أحمد صفدي، وكما سمعته «القدس العربي» فإن الاتجاه واضح، والمستقبل التشريعي والانتخابي في حضن «التمثيل الحزبي».
في المقابل، عملياً لا يوجد غموض أو تأويلات في هذه «الأجندة» فالجميع في البلاد من أعلى الهرم إلى أدناه، يساند التحديث السياسي والرؤية المرجعية في السياق. لكن لا أحد في المجتمع ولا في الدولة يقدم أدلة مباشرة على أن «إشكالية البلاد والعباد» كانت في جورها بـ «الثقل العشائري» في الانتخابات.
المعنى هنا أن المجتمع اشتكى طوال سنوات من غياب الحريات ومن الفساد والترهل وغياب الروح الديمقراطية، لكنه لم يشتك من ممثلي الثقل العشائري الذين كان بعضهم عنواناً للتحديث والمواقف المتقدمة أساساً.
وأروقة الدولة عندما تناقش «مشكلات الإدارة العامة» أو تتحدث عن «تصويب دولة الرعاية» والتحول لـ «دولة الإنتاج» لا تتطرق إلى أدلة أو براهين تربط أي سلبيات بالبنية الاجتماعية التقليدية في المجتمع.
العشائر ـ الأحزاب
الأهم في التساؤلات التي لا يجيب عليها التصريح الجريء للوزير الخريشة هو: كيف نضمن ألا يؤدي ما يجري حالياً إلى انتقال مفهوم «العشائرية» التي أصلاً «لا تؤذي المجتمع» بل تخدمه مع الدولة، إلى الأحزاب السياسية؟
مثل هذا السؤال له قيمته الموضوعية؛ لأن تفاعلات الهندسة لأول انتخابات تجري في عهد التحديث السياسي «عبثت» حتى في التمثيل العشائري والمناطقي في القوائم، ولم تترك للأحزاب السياسية فرصة «الانتقاء بحرص وبرامجية» في عملية تخاطب مجدداً «غريزة المحاصصة» وتقاليدها، لكن عبر الأحزاب هذه المرة.
«مسار يبدأ بتخصيص 41 مقعداً من أصل 138 للقوائم الحزبية»
هل ذلك مفيد لـ «التحديث»؟ سؤال مطروح ولا أحد يستطيع ترسيم إجابة عليه؛ لأن «الشائعات» اعترت أولاً كل عملية بناء الأحزاب الجديدة ولأن «دواوين العشائر» في تحضيرات الانتخابات الحالية على الأقل مارست خياراتها في «اختيار مرشحي الاجماع» بديمقراطية الصندوق والتصويت، الأمر الذي لم تفعله بأي صيغة حتى الهياكل الحزبية الجديدة.
غالبية الأحزاب الوسطية لجأت إلى «توافقات» تؤدي إلى محاصصات بينها المناطقي والعشائري والاجتماعي وحتى «المالي» و«التشاوري» عند اختيار قوائم مرشحيها. وأحزاب المعارضة ليست بوضع أفضل؛ فحزب جبهة العمل الإسلامي المعارض لم يتقدم الأعضاء فيه أصلاً بـ «طلبات ترشيح» والمفارقة أن «عدة أعضاء» في «لجنة كلفت باختيار المرشحين» أصبحوا فجأة مرشحين رسميين، بمعنى أن اللجنة اختارت نفسها ولو جزئياً.
نتيجة تدوين وتوثيق بعض الملاحظات تقول بملء الفم إن «أحزاب المنظومة» بشقيها الوسطي والمعارض، تجنبت الخيار الديمقراطي «التصويتي» المباشر في إقرار قوائم مرشحيها خلافاً للعشائر التي يريد الوزراء استبدالها لصالح «أحزاب لم تنضج بعد» فقد اختار معظمها مرشحي الإجماع فيها بتصويت ديمقراطي لا لبس فيه. تلك مفارقة لا يريد كثيرون التركيز عليها تجنباً لـ «خدش مسار التحديث».
وما تقوله خلاصات التأمل أن المطلوب طبعاً مسار برامجي ينضج في المجتمع بدون «رعاية وتسمين» ويقنع «العشيرة» كوحدة سياسية اجتماعية اقتصادية منتجة بالالتحاق به بعيداً عن لعبة ثنائية «الأحزاب بدلاً من العشائر».
مؤسسو «الأحزاب الجديدة»
واقعياً اليوم، أبناء العشائر هم مؤسسو «الأحزاب الجديدة» وسياق العشيرة الاجتماعي قد يكون الأكثر إنتاجية في «رفع مستوى وقيمة البرامج الحزبية» شريطة أن تتوقف -كما اقترح الناشط النقابي البارز أحمد أبو غنيمة- ممارسات «الوصاية» على الشعب.
واقعياً أيضاً، لم تكن العشائر يوماً خارج السياق الوطني الحزبي، فقد سبقت الجميع عملياً في الخمسينيات والستينيات في تأسيس كل المبادرات الحزبية العروبية والقومية.
ويعني كل ذلك أن التأشير على «استبدالات» لا يخدم مسيرة تحديث المنظومة ولا يعكس «وقائع الحال» وقد يؤدي في حال الاسترسال إلى «خدش» نتائج التحديث السياسي؛ لأن العشائر الأردنية في آخر محطة تماماً على رصيف الركاب المتربصين بالعمل الديمقراطي والحزبي، ولأن من يسعى لخدمة «مسار التحديث» وتجذيره لا يبدأ بـ «استعداء» قوة اجتماعية مستقرة يمكنها أن تشكل رافعة للتحديث شريطة إظهار الحكومة بقدر أكبر من الاحترام لعقل ومصلحة كل المكونات الاجتماعية. الأحزاب السياسية ليست بديلاً عن العشائر، بل تعززها، والعلاقة تبادلية وناضجة.
وبما أن التحديث أصبح «خياراً وطنياً» وقراراً لا بد من العودة بيروقراطياً لـ«قواعد اللعب النظيف» وعلى أساس القناعة أن من أراد بمسيرة التحديث خيراً لا يبقي «قانون الجرائم الإلكترونية» الحالي كما هو، ولا يتلاعب حكومياً بـ «الضمانات» التي أعلنت عند إقراره بحجة «تنظيم قطاع السوشال ميديا».
ومن يريد الالتزام حكومياً بالتحديث الجذري، لا يتوسع في الاعتقالات وتقليص الحريات؛ لأن مسألة التحديث برمتها أصلاً قضية «مصداقية».
الخلاصة: تكثيف الخطاب بالرؤية ومسار التحديث جيد وإيجابي ولا غبار عليه، لكن ثمة «مشكلات عميقة» متعددة تعيق الاتجاه قبل جزئية «الثقل العشائري» في سلطة التشريع… تلك لم تكن يوماً الإشكالية الأهم.