إسرائيل تعبث بضخ «المياه والغاز»… والأردن في معادلة «لا بديل عن الاشتباك مع اليمين»

عمان ـ «القدس العربي»: تقصدت الخارجية الأردنية الانفراد عملياً على المستوى العربي بإصدار «بيان شديد اللهجة» ضد دعوة الوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير لـ «اعتقال الرئيس الفلسطيني» محمود عباس، واغتيال كبار قادة السلطة.
الفكرة الأردنية هنا أن «محاصرة» الطروحات اليمينية المتشددة لأركان حكومة بنيامين نتنياهو «مهمة سياسية» يأخذها الأردن رسمياً وبتوجيهات رفيعة المستوى، وبصيغة مقصودة تماماً على عاتق مؤسساته الدبلوماسية والسياسية، ليس فقط لأن عمان «مهتمة جداً» بأن لا يُترك الميكروفون لبن غفير وأمثاله من عصابة تل أبيب الحاكمة بدون «رد فعل»؛ ولكن لأن الأردن على المستوى المرجعي يتحرك ضمن إستراتيجية اشتباك علنية مع الكيان الذي وصفه وزير الخارجية أيمن الصفدي علناً بـ «النظام الإسرائيلي الحالي»، ولأن القرار اتخذ عملياً، بأن لا تترك السردية في العديد من الملفات لمن وصفهم رئيس الوزراء الدكتور جعفر حسان أيضاً بـ «المتطرفين الواهمين»، في الوقت الذي تضطر فيه عمان لإظهار خشونتها في مواجهة الإسرائيليين المتطرفين بسبب حسابات غياب الضمانات الأمريكية المنتجة.
رهان المؤسسة الأردنية خلف الستائر واضح هذه الأيام، ويرتكز على فرضية أن نتنياهو يتجه نحو «انتخابات مبكرة» ويخطط للبقاء في السلطة، مما سيبقيه في حاجة ملحة لأعداء المصالح الأردنية العلنيين مثل بن غفير وسموتريتش وغيرهما، لأن الأخير- نقصد نتنياهو- خطته الأساسية مرحلياً هي «منع كاميرات الإعلام» من التجول الحر في قطاع غزة.
قيل أردنياً مثل ذلك التوقع في الغرفة المغلقة في توقيت دخلت فيه الاتصالات والحسابات مع اليمين الإسرائيلي منطقة خطرة، لا بل منزلقة، على حد وصف المستشار القانوني الدكتور أنيس القاسم، الذي يتصور بأن الاحتفاظ باتفاقية وادي عربة جزء أساسي من إستراتيجيات الرد على ذلك الانزلاق.
الأردن الرسمي هنا مشتبك أيضاً ويتحرك في فضاء علني قوامه فلسفة «لا نثق بكل ما يقوله نتنياهو»، الأمر الذي يعني خلف الكواليس العمل وبنشاط على تهميش المساحات أمام مناورات نتنياهو والبقاء في حالة صدام مباشرة مع طاقمه، خلافاً للسعي مبكراً إلى «تمكين السلطة الفلسطينية» وتجديد شرعيتها، وتوحيد صفوف الهيئات النشطة لفلسطينيي وعرب عام 1948 ومساعدتهم في حل مشكلاتهم البينية قبل تحضيرات الانتخابات المبكرة، حيث قرار أردني سيادي وسياسي يؤكد بأنه «لا بديل» عن الاشتباك مع اليمين المتطرف ولا صيغة لأي تكيف أو تعايش معه.
والسبب هو ما يفسره لـ «القدس العربي» الخبير الاستراتيجي الجنرال قاصد محمود، وهو يرى أن اليمين المتطرف الذي يخطط للبقاء والتوسع في الكيان، يوجه مختلف الرسائل التي تفيد بأنه يسعى إلى «محاصرة الأردن استراتيجياً وجيوسياسياً».
والحصار الذي يمارسه يمين تل أبيب ضد المصالح الأردنية لا يقف عند حدود ما يجري ضد «الوصاية» في القدس والمسجد الأقصى يومياً برعاية بن غفير، ولا عند بناء جدار أمني محوره «عسكرة منطقة الأغوار» وإرباك الجسور والمعابر، بل يتعدى في اتجاه الضغط الشديد على الأردن في ملف جنوبي سوريا والمكون الدرزي؛ لقبول منطق الاحتراز الجغرافي الإسرائيلي، ولفتح قنوات اتصال مباشرة بين الأردن والمكون الدرزي بعيداً عن الدولة السورية.
وتحرشات يمين إسرائيل تصل إلى مستوى «القطع الجزئي» بين الحين والآخر، للغاز والمياه عن الأردن؛ ما يشكل أساساً لعبث يصر الإسرائيليون على ركوب موجته لغرض الابتزاز، فيما لا يفعل الأمريكيون شيئاً ملموساً بالاتجاه المضاد. وهو ما لا تعلنه الحكومة الأردنية عملياً، لكنه يؤسس لحالة «صدامية» حتماً بين الأردن والائتلاف الإسرائيلي الحاكم الذي يتحرش بوضوح ويومياً بالمصالح الأردنية، كما يقدر الخبير الاقتصادي والسياسي الدكتور أنور خفش.
وفي ضوء تلك الحالة الصدامية التي تذوب معها كل احتمالات التفاهم أو التكيف، يندفع الوزير بن غفير لمنسوب يؤذي أهم استراتيجيات العمل الأردنية، وهو يروج لنظرية «اعتقال الرئيس عباس» لأن عمان ترى في الرئاسة الفلسطينية الشريك الأساسي والوحيد الآن الذي يحول دون مشاريع «ضم الضفة الغربية».
تعليقات بن غفير ضد «الشرعية الفلسطينية» برزت فيما تشارك عمان بفعالية ونشاط في هندسة إعادة بناء السلطة الفلسطينية بما يكفل إصلاح بنيتها الإدارية وتنشيط هيكلها بتوزيع الصلاحيات، وبما يكفل أيضاً مصالحات حيوية بين أقطاب حركة فتح والاستثمار في نائب الرئيس الحالي القيادي، حسين الشيخ.
الأردن البيروقراطي قطع شوطاً كبيراً خلف الستائر في إسناد تلك الهندسة للمشهد المؤسسي الفلسطيني مع بعض الشركاء، وتصوره أن برمجة دعوات متطرفة مثل تلك التي تبناها بن غفير علناً، يعدّ خطوة إسرائيلية في غاية العداء لا بد من التصدي لها، وهو ما يظهر في اللغة الخشنة التي صدر بها بيان الخارجية الأردنية بخصوص الرد على اقتراحات «اعتقال أركان السلطة» أو اغتيالهم.
المقاربة الأردنية هنا تلك التي تقترح بأن «حماية مصالح الأردن» الجذرية التي يهددها اليمين الإسرائيلي بوضوح، حتى برأي السياسي البارز طاهر المصري، يتطلب «تثبيت مؤسسات الشرعية الفلسطينية» وتعزيز صمود الفلسطيني على أرضه.
وهي العبارة التي استعملها الوزير الصفدي عدة مرات على هامش نقاش مع «القدس العربي» عن أولويات الحراك الدبلوماسي الأردني النشط، فيما المقاربة السياسية الأردنية تدفع في اتجاه أن «لا يسترخي» اليمين الإسرائيلي ويعتقد بأن دول الاعتدال العربي تتردد في مواجهة مشاريع «الهيمنة والتوسع».
