الأردن بعد «الرد على العرش»: سيولة استراتيجية… تحديات وفرص… جلوس في المنتصف بين «الثابت والمتكيف»
عمان ـ «القدس العربي»: لا يلام سياسي عتيق وخبير وحريص من وزن رئيس الوزراء الأردني الأسبق طاهر المصري، على شعوره بالقلق بعد ظهور بعض المقالات والتغريدات والمناوشات المنصاتية التي اجتهدت وهي تحاول خطف المضامين المهمة والعميقة التي وردت في تشخيص خطاب العرش الملكي الأخير للواقع والرؤية والموقف، ولصالح منطقها الذاتي والضيق بصيغة غير لائقة بعض الأحيان.
تلك وفق ملاحظة المصري التي سمعتها «القدس العربي» عملية تناول قاصرة عن قراءة المهم والاستثنائي، وتلجأ إلى تفسيرات إما سطحية أو انتهازية تخصها ولا تخص خطاب المبادئ والحرص على مستقبل البلاد.
ما يهم في المشهد الوطني ألا تشعر «فئة ما» بين الأردنيين بأن الرؤية المرجعية تمثلها وحدها أو حتى تنحاز لما تقترحه، خصوصاً إذا كان ما تقترحه أصلاً يخدش «وحدة صف الشعب الأردني».
ولا يلام بالمقابل سياسي واقتصادي خبير آخر هو الدكتور محمد الحلايقة، على ملاحظته -بالتوازي- أن بعض التعابير التي ظهرت من الخط السريع لبعض الكتبة تتجاوز بدورها، لا بل تعاكس أحياناً المضمون والمحتوى الذي ينبغي لنا كأردنيين جميعاً أن نركز عليه في إطار الاشتباك إيجابياً مع الرؤية الواضحة الصريحة التي عرضها خطاب العرش الملكي ذاته، وما ينتج عنها من أولويات وطنية وتحديات وتحديث أيضاً.
محطة أساسية
المصري مثل غيره من كبار الساسة، اعتبر خطاب العرش المرجعي الأخير محطة أساسية في التأمل الوطني، ليس لأن النص والتوجيه والتشخيص واضح هنا، ولكن لأن التحدي هو أمام الأردنيين بمختلف مكوناتهم ومشاريهم السياسية للقيام بالواجب بالمقابل في صيانة الوحدة الوطنية والاستعداد لمواجهة أسوأ الاحتمالات والفرضيات والسيناريوهات، بما يحافظ على مستقبل المؤسسات والمواطنين عبر الارتقاء إلى ما قصده أصلاً خطاب العرش الملكي بدون تسرع أو إسقاط بائس سياسياً، لا يتميز باللياقة أحياناً، أو عبر الارتقاء للتشخيص المركزي الذي عرضته القيادة أمام برلمان الشعب بمجلسيه.
العقلاء الراشدون الحكماء الخبراء التقطوا الرسالة الملكية بوضوح، لكن بعض الأصوات التي ظهرت مراهقة أو متسرعة، تورطت فيما يبدو بوضوح في الإسقاط الذي يحذر منه المصري بخبرته العميقة، وفي محاولة تقمص تحتاج لتفحص خارج السرب والنص، كما يقدر الحلايقة.
النقاش في دلالات وتوابع خطاب العرش الملكي الأردني الذي ألقي قبل نحو 10 أيام بافتتاح دورة البرلمان، لا يزال حاضراً بقوة في ذهن الأردنيين، ليس فقط لأنه مهم وأساسي وعميق ويؤسس للمرحلة، ولكن لأن خطابات الرد من مجلسي الأعيان والنواب، مساء الإثنين، على خطاب العرش، حاولت تلمس ما هو منتج ومفيد في المثول والالتزام بالمعايير المطلوبة، وأيضاً لأن خطاب العرش ذاته الذي تضمن عدم اتخاذ أي خطوات أو سياسات تجازف بمستقبل الأردن، أعقبت على الأرجح مستجدين في غاية الأهمية، سياسياً وإدارياً. وبرز الخطاب بعد الإعلان عن فوز الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، وبعد رحلة استكشافية عميقة بتوقيع القصر الملكي إلى مواطن العمق في الدولة البريطانية ولندن.
داخلياً؛ بعد بروز الخطاب إثر صعود إداري في ملف تدشين مشروع إعادة الهيكلة بما يضمن تطوير أداء المنظومة الأمنية في البلاد، وهي جزئية مسيسة بامتياز إدارياً، انتهت بإحالة أكثر من 120 مسؤولاً من مختلف الرتب إلى التقاعد. وليس سراً في السياق، أن خطاب العرش حاول الإجابة عن تساؤلات مطروحة وعالقة في ذهن الأردنيين، قوامها القلق والخوف من اتجاهات المرحلة الترامبية المقبلة، ثم القلق من قصور الجاهزية الحكومية في مواجهة أطماع اليمين الإسرائيلي.
وهو خوف مبرر، حسب الرأي الذي سمعته «القدس العربي» من الرئيس المصري وهو يتحدث عن سيولة استراتيجية مفتوحة الاحتمالات والفرص أيضاً في الإقليم والمنطقة، والاستعداد لها بموجب فهم عميق للتحديات والأطماع الإسرائيلية، ولاحقاً النوايا الأمريكية التي قد تظهر محطة أساسية في التمكين الوطني. قرأت عدة جهات خطاب العرش على نحو متعدد أو يغالط بعضه بعضاً أحياناً، وفاتت فرصة الشرح والتفصيل على الحكومة وأذرع الإعلام الرسمي.
ولم يفهم كثيرون لماذا غابت بعض الكلاسيكيات في الثوابت الأردنية تجاه القضية الفلسطينية والصراع من الخطاب. ولم تقرأ العبارة الأساسية التي تقول بـ «عدم المجازفة بمستقبل الأردن» كما ينبغي لها أن تقرأ بصيغة مفصلة وجيدة مع أن أحداً لا يستطيع إلا إظهار التقدير للقيادة التي تؤمن بتأمين مصالح الشعب الأردني ومستقبله.
نزول الأردن عن الشجرة
تحدثت بعض المقالات عن «نزول الأردن عن شجرة التصعيد الدبلوماسي». لاحقاً، وبعد ساعات من ظهور مثل هذا الرأي وسط الإيحاء بأن تصريحات وزير الخارجية أيمن الصفدي، حصراً، هي التي صعدت بالموقف الأردني على الشجرة، ظهر الوزير ذاته في روما ليحدث العالم باسم بلاده عن «غزة، التي أصبحت مقبرة للأطفال والنساء والأخلاق والقانون الدولي».
لا يوجد أي وزير خارجية عربي يقول ذلك منذ يوم 7 أكتوبر، وتكرار الصفدي له في روما يعد إجابة مباشرة على تلك التحرشات التي افترضت بأن الوزير الصفدي صعد على الشجرة، بحيث ظهر أن النص الدبلوماسي مرجعي ويمثل الدولة.
الأهم في لقطة الصفدي أن الأردن في الاشتباك، وأن من قرأ غياب بعض العبارات الكلاسيكية عن خطاب العرش الملكي المختصر قد يحتاج إلى إعادة القراءة، فيما تجلت عبقرية الخطاب في المعنى والمبنى، برأي خبير مثل الرئيس المصري؛ بأنه خطاب يحتاط لكل الاحتمالات عندما يقف بالأردن وموقفه في منتصف المسافة، بحيث التموقع بصيغة جذرية ثم الانطلاق بالاتجاه الملائم واللحظة المناسبة للحرص على مصالح ومستقبل الأردن. الجلوس في المنتصف خطوة تكتيكية في استراتيجية الاشتباك الأردني مع التفاصيل، برأي المصري.
والمطلوب، بتقديره، ليس الادعاء بتفسير نصوص خطاب العرش على الهوى الشخصي، كما رصد ولوحظ أحياناً، ولكن القيام بالواجب بما يقتضيه النص، وفهم الأمور على وقائعها؛ لأن المتغير الإقليمي والدولي كبير وغامض ولا ينبغي لأي جهة شعبية كانت أم رسمية أن تطالب الأردن بأكثر مما تقتضيه إمكاناته، ولأن الحرص على الأردن من حيث صلابته ووحدته، واجب الجميع بدون استثناء في المؤسسات والشارع.