الأردن بين غرور البيروقراط وصمت التكنوقراط: الحرب مثل العرس «عند الجيران»

عمان ـ «القدس العربي»: لا حدود لـ «صمت الحكومة» مجدداً في الأردن خلال «أزمة حربية» فيما بعض طائرات المسيرات سقطت في عدة مواقع بينها بلدة صحراوية شرقي البلاد وباحة مطعم في قلب عمان الغربية.
ظاهرة مستجدة
ظاهرة مستجدة في حالات الأزمة برزت على السطح: الحكومة في الحد الأدنى تماماً من الإفصاحات.. والوزراء لا يتحدثون مع الشعب، والمؤسسات السيادية المختصة هي التي تخاطب الجمهور، والمسرح «النخبوي» في خاصية «الصامت»، والكاميرات في الإعلام الرسمي محتكرة لصالح رموز صيغتين: الأولى هي التي تتهم وتشيطن «إيران فقط» وتتجاهل «الخطوة اللاحقة» لليمين الإسرائيلي. والثانية هي تلك الشريحة التي تحترف المبالغة في تضخيم وجود «مؤامرات تشكيكية» تستهدف البلاد والعباد.
دون ذلك، عملياً، لا اجتماعات تنسيقية أو تشاورية حكومياً، لا مع الأحزاب السياسية المرخصة ولا مع النقابات المهنية الحائرة، ولا حتى مع مكونات المجتمع؛ ما دفع في اتجاه ملاحظة رصدها السياسي المتفاعل مروان الفاعوري وهو يبلغ «القدس العربي» بأن سلطات الحكومة تتصرف وكأن «الحرب مثل العرس عند الجيران، أو بينهم».
ذلك خلل «مصنعي» كبير ـ في رأي الفاعوري ـ في هضم وفهم مسوغات التصعيد العسكري الأخير بين إيران وإسرائيل، ولاحقاً في التعاطي مع «التداعيات والنتائج» التي يغرق في تأويلها وتفسيرها الأردنيون البسطاء عبر منصات التواصل الاجتماعي.
ما رصد من الفاعوري ونشطاء غيره غياب مؤثر وملحمي «رؤية وطنية» يتم ترويجها إعلامياً حتى تمثل الأردن في سياق مشهد الصراع الذي سينتهي بتغييرات بنيوية كبيرة، أقل مؤشراتها أن «الظروف والاعتبارات» تغيرت وتبدلت، وأن مصالح المملكة قيد الانقضاض عليها، خصوصاً عند الوقوف على محطة السؤال: أين سيقف العدوان الإسرائيلي الشامل لبسط النفوذ على شعوب المنطقة في الخطوة التالية؟
لا أحد على الأقل في نخب السلطة يملك إجابة مقنعة على السؤال الأخير، لكن غياب النص الرسمي أوضح من أي سيناريو للاختفاء الطوعي. وما يؤكده لـ «القدس العربي» عضو بارز في «فريق الأزمة» أن غياب المعطيات والمعلومات مسألة لم تدرك الحكومة الحالية أنها مهمة، ولم تبذل أي جهد لتعويض الفاقد حيث طلب من الجمهور تلقي الإرشادات والتفاعل مع التوجيهات العملياتية فقط بخصوص سقوط شظايا وطائرات وصواريخ، ولم يطلب من الأردنيين فهم زوايا المناورة التي تخص الدولة وأولوياتها.
جسم الحكومة بقي منشغلاً بإكمال مشاورات سقف الجمارك مع الولايات المتحدة و«الحماية الاقتصادية» قدر الإمكان، ووضع ترتيبات طوارئ في مساحات محددة مثل المياه والغذاء والأدوية والطيران والطاقة. لكن في المقابل، غياب تام حكومياً عن منطقة مخاطبة الرأي العام سياسياً، وشرح المسار الاستراتيجي للأولويات، ما نتج عنه تلقائياً «فراغات» في الإعلام الرسمي والمزيد من الأسئلة العالقة التي تنطح للإجابة عليها، إما أصحاب تجربة بسيطة يجتهدون إعلامياً أمام الكاميرات بدون «تغذية هادفة» أو خطابات هجومية موسعة وشاملة لا على التعيين، تبدأ من «ضدية مبرمجة» لإيران ثم تنتهي مجدداً عند «تخوين» الآخرين.
حوار وطني
الحكومة عملياً هي المسؤولة عن إدارة «حوار وطني» من أي صنف في وقت الأزمات، خصوصاً العسكرية، لكن الاجتهاد هنا كان صفرياً لأسباب غامضة حتى الآن وسط عطلة دستورية للبرلمان جعلت مجلس النواب برمته «خارج التغطية» تماماً في حدث متراكم ومتدحرج لا بل قابل للتدحرج مجدداً لاحقاً.
غابت الحكومة عن المسار الجماهيري ثم غابت النخب التي لا تملك رواية أصلاً تنقلها أو تتحدث عنها، فيما جلس نواب البرلمان على دكة الاحتياط مثل بقية المواطنين، وحاولت لجان مجلس الأعيان تعويض الفاقد مع أن أعضاء بارزين في الأعيان أيضاً صاح بعضهم في اجتماعات «لجانية» بصيغة.. «لم يتحدث معنا أحد من الحكومة ولا معلومات لدينا».
عملياً، لا أحد يعلم ما الذي يحصل أو لماذا يحصل لكن. عند الغرق في البحث عن إجابة، لا بد من توقع أن الحكومة ذاتها خارج الغطاء المعلوماتي، حيث لم يظهر رئيس الوزراء للتحدث مع الأردنيين طوال أسبوعي الصراع بين إسرائيل وإيران، فيما كانت الشظايا تسقط وسط المواطنين ويقوم الدفاع الجوي بواجباته باحتراف ومهارة. الأردنيون عموماً يميلون إلى رؤية رئيس الحكومة يتحدث إليهم في الأزمات، لكن لسبب أو لآخر حرم الجمهور من هذا المشهد دون معرفة الأسباب والخلفيات، مع أن الرواية الأكثر رواجاً وسط الناس تلك التي تفترض بأن «هزيمة إيران» في الجولة الحالية معناها السريع والمباشر بعدما تضع الحرب أوزارها هو «التهجير والضم»، وكلاهما يتلاعب بمصير ومصالح الأردن والأردنيين.
عملياً، تحدث وزير الخارجية المسؤول المباشر عن الملف الخارجي لمرة واحدة في اجتماع ضيق، والشرح الوحيد لـ «الفهم الأردني» لما يجري قدم في جرعة واحدة لمجموعة صغيرة من المشتبكين قبل الاندفاع الرسمي لمهاجمة «جبهات تشكيك» بالموقف الرسمي لم تكن مرصودة ولا مهمة أصلاً.
مفاتيح العمل الوزاري
لم ترصد مفاتيح العمل الوزاري والحكومي، لا مع رموز ومؤسسات القطاع الخاص، ولا مع وسائل الإعلام، ولا مع النواب والأعيان أو النقابات والأحزاب، والحصيلة هنا «صفرية». وتظهر أن حكومة الرئيس الدكتور جعفر حسان لم تتحدث مع أي جهة في الداخل الوطني، لا عن الحرب وتشخيصها ولا عن نتائجها المتوقعة.
مشهد ضبابي وغريب وفيه الكثير من «الغرور البيروقراطي» الذي يقابله صمت التكنوقراط الحاكم، لكنه تكرر في الواقع مع أكثر من حكومة وفي أكثر من نقطة تحول دراماتيكية وأزمة.