«عدو الدولة»… يعرض مجدداً في الأردن: غياب اليقين والحفر «تحت أقدام الحكومات والنخب»
عمان- «القدس العربي»: ماكينة التحويل إلى «عدو الدولة»… مجدداً، الأردن في عمق المفارقة التي تقول بأن سياسيين أو مسؤولين كباراً في واحدة من غرائب الألعاب البيروقراطية يمكنهم التحول بين ليلة وضحاها إلى نسخة جديدة من الفيلم الأمريكي الشهير «عدو الدولة».
لا أحد يعلم بعد كيف يمكن لمسؤول ما كبير أنيطت به الثقة والصلاحيات ومارس واجباته واجتهد فأصاب أو أخطأ، أن يتحول فجأة إلى مجرد شخص تحفر تحت قدميه أو قدمي مؤسسته، إن كان له مؤسسة، بقية الأجنحة وشبكات النفوذ في الصالونات والنخب، وأحياناً في بعض مؤسسات الدولة الرسمية.
دفع الأردنيون، شعباً وحكومة، طوال عقود ثمناً لمثل هذه المغامرات التي تضرب رمزية السياسي والمسؤول وتحيله من «مختار بعناية ويحظى بالثقة المرجعية» إلى «خطر لا بد من استئصاله» في دولة لا ينتخب فيها عبر صناديق الاقتراع الرجال لتولي مسؤولياتهم، وهو وضع كثيراً ما ارتاح له الأردنيون بحكم ثقتهم في المؤسسات والمرجعيات.
سردية مختلفة للمشهد
واحد من تجليات الاستطلاع الأكاديمي المثير الذي نفذه طاقم بحثي مقرب أصلاً من السلطات باسم مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الحكومية الأكبر في البلاد، هي تلك المفارقة التي ظهرت مجدداً وتحاول صناعة خصم جديد للدولة فرضياً طبعاً، من داخل جسم الوزارة التي تمثل الدولة. لا يختار المسؤولون في الأردن بالاقتراع المباشر، وهذا ما يؤكده المحلل الاستراتيجي الدكتور عامر السبايلة وهو يلتقط المفارقة. وكانت الاستطلاعات دوماً أداة للقياس في الجانب العلمي، ليس للتعبير عن تطلعات الناس واتجاهاتهم، لكن لمساندة صاحب القرار أو وضع الحقائق والوقائع العلمية بين يديه.
وتلك، في رأي القائمين على مركز الدراسات الاستراتيجية صاحب مفاجأة الاستطلاع الأخير، مسألة في صلب واجبات الباحثين الأكاديميين. لكن الحكومة راقبت سردية مختلفة للمشهد، ولديها وجهة نظر تنطوي على ملاحظات علمية وبحثية تخص كيفية توجيه الأسئلة والتوزيع الجغرافي للعينة المستطلعة. ثمة من يقول من مصادر رسمية، إن الحيثيات والأرقام تعددت، مما ينفي صفة الحياد المنهجي، وإن كانت تلك مجرد معلومة لا تأكيدات أو أدلة عليها حتى الآن. الضجيج نخبوياً وصل إلى منسوب الزوبعة بعد الاستطلاع الأخير الذي حاول توجيه «لكمة» قوية لحكومة الرئيس الدكتور بشر الخصاونة، وفي توقيت حرج على المستوى الوطني والاقتصادي.
لكن ذلك الضجيج قد يلتهم في طريقه مصداقية كل شيء الآن، فالمواطن الأردني غاضب ومحتقن، وأي محاولة لإنكار هذا الغضب تنطوي على تضليل للدولة وإساءة لها حتى وفقاً للرأي الذي سمعته «القدس العربي» مباشرة مرتين من عضو البرلمان الناشط والمتحرك سياسياً عمر العياصرة.
لا أحد في جدل استطلاع مستمر لليوم الرابع على التوالي يريد تحصيل إجابة عن سؤال من طراز: ما الذي يمكن توقعه عند توجيه أسئلة لمواطنين غاضبين؟
أسباب الغضب والاحتقان متعددة وتتكاثر، برأي السياسي مروان الفاعوري، لكن قد يكون من بين أهمها منهجية صناعة الأدوات والنخب وغياب الشفافية والمصالحة والزحف المتين لنظرية تقليص الحريات العامة وغياب منهجية أوضح في تشكيل الحكومات أصلاً.
كل تلك أسباب تستحق التأمل، برأي الفاعوري، ضمن مقاربة أعمق قليلاً، لكنها أسباب لا تكفي لا لاحتواء الضجيج ولا لتقديم إجابات على أسئلة معلقة تنمو وتزيد وتتكاثر وتزحف في كل نواحي الحياة العامة وسط القناعة بأن الإجابات عند الغضب ستكون مفهومة ولا ينبغي لأحد في تواقيت التراجع العام الذي لا تتحمل فقط الحكومة مسؤوليته الغرق في ترف الاستطلاعات واللعب بالأرقام، لا لأغراض شخصية ولا لأغراض مرتبطة بتصفية حسابات بين مراكز القوى. والأهم أن المناخ العام فيه فائض من الجدل والتشكيك وغياب اليقين، ولا يحتاج لاستفزازات استطلاعية جديدة تدفع ليقين العام إلى غيبوبة أبعد وأطول.
استطلاع جدلي
والمهم أن الاستطلاعات أداة قياس علمية.. كانت كذلك وينبغي أن تبقى، وإن كان الرأي القائل بأن الاستطلاع يختص فقط أو ينبغي أن يختص بالحكومات المنتخبة فيه نقطة تستحق النقاش، وإن كان المسار العام منذ حتى حادثة واقعة التسجيلات الصوتية الشهيرة التي حظر النشر بشأنها يوحي بأن التجاذب وأحياناً صناعة الانقسام والصراع، مظهر يرافق محاولات الإنتاج في المشهد النخبوي الأردني، وأحياناً بين المؤسسات، لكن في ظروف غير مواتية وصعبة ومعقدة وحساسة.
يمكن بطبيعة الحال، أن يرتدع الجميع تعففاً عن الصراع والتجاذب، خصوصاً داخل طبقات وشرائح مؤسسات الدولة، لكن في المقابل لا أحد يرصد بعد إرادة واضحة الملامح سياسياً تعزز القناعة على الأقل بالمستوى التنفيذي حصراً بأن العمل الجماعي لا تزال له أولوية، وبأن روح الفريق لا تزال قيمة أساسية في الإدارة العليا، أو بأن مفهوم الخدمة العامة يمكن ربطه بالأداء.
انقسامات لا يمكن إنكارها توالدت داخل المؤسسة بعد مشروعي التحديث السياسي والتمكين الاقتصادي.
والاستطلاع الجدلي الأخير على الأرجح يبقى جزءاً من إشكاليات التجاذب العميقة خلف الستارة، أو سيقرأ على هذا الأساس بالحد الأدنى. وهو أمر يعيد إنتاج ظواهر الحفر تحت أقدام الحكومات وحفر المسؤولين أحياناً تحت أقدام بعضهم بعضاً، حتى باتت الصورة العامة أمام الشارع والسفراء الأجانب حصراً سلبية بنسبة لا تسمح بعد الآن لا لرئيس الوزراء الخصاونة أو لغيره من كبار المسؤولين التنفيذيين والاستشاريين، بالاسترسال في انتقاد السوداوية والسلبية. والسبب واضح هنا، حيث إن حصة لا يستهان بها من تلك السوداوية والسلبية تنتج في مصانع السلطات التنفيذية أو تطرح بكميات كبيرة في السوق العام من جهة النخب التي تختار أو تنتقى لكي تنجز أو تنتج بعيداً طبعاً عن صناديق الاقتراع التي بالمناسبة، لا يطالب بها أحد في الشارع الأردني بقدر ما بطالب الناس جميعاً بضبط الإيقاع البيروقراطي والرسمي، وإعادة ضبط الإعدادات في الإدارة العليا، أو بتكريس مبدأ العمل الجماعي وروح الفريق.
كل ذلك ينبغي أن يتوقف حتى يصبح للاستطلاع والاستفتاء بشأن حكومة دستورية لكنها ليست منتخبة، قيمة حقيقية. وينبغي أن يتوقف للمرة الثانية؛ لأن الجبهة التي تخسر بإعادة عرض فيلم «عدو الدولة» من أبناء الدولة واضحة ومعروفة دوماً، وهي الدولة نفسها.