الأردن و«العتمة السورية»
واحدة من أهم القيم التي صمدت بسببها الدولة الأردنية الخبيرة من 100 عام هي تلك المتمثلة بأن القرار يتخذ بميزان دقيق وبخبرة عميقة محتواها معرفة موازين القوى
مطالبة «الدولة» الأردنية بالتصرف إزاء مشهد يفصم العقول ويجرح القلوب ويدعو أيضا للبهجة مثل المشهد السوري باعتبارها «حركة أو تيارا» أقرب كسر عشري سياسي لخطأ استراتيجي يعلي من شأن «البصر» على حساب «البصيرة».
بالمقابل احتكار الحكومة ومؤسسات الدولة للمعطيات والمعلومات والتقديرات بدون تشغيل ماكينة الإعلام الرسمي وتقديم «رواية أو جملة مفيدة» تنفع الناس وتحشدهم خلف «المصلحة الوطنية» أو بالحد الأدنى تشرح لهم «كيف يفكر عقل الدولة» مسألة تنطوي على استرسال في سياسة التجهيل تدفع الشارع للتخبط والتنقل بين روايات «بديلة» بعضها بالتأكيد «مغرض» وليس بريئا.
نقول ذلك ونحن نراقب طبيعة نقاشات الأردنيين في مجالساتهم وعلى منصاتهم بخصوص «الملف السوري» حيث شقاق ونزاع وروايات إما مفبركة أو مؤدلجة، وقراءات تبنى على «أهواء شخصية» وإفراط في الحماس للتغيير قبل استقراره.
في الواقع ينسى «الشعبيون» أو المتسرعون وأحيانا القلقون من يمين إسرائيل حيث العدو الصريح المباشر وهم يحاولون «تقييم» الموقف الرسمي أن الدول لا تفكر بعقلية الأفراد.
وأن قراراتها لا تنطلق ويتوجب أن لا تنطلق من مشاعر شخصية انفعالية، وأن واحدة من أهم القيم التي صمدت بسببها الدولة الأردنية الخبيرة من 100 عام هي تلك المتمثلة بأن القرار يتخذ بميزان دقيق وبخبرة عميقة محتواها معرفة موازين القوى وكيفية إدارتها للملفات في العالم.
الإصرار على أن تتصرف الحكومة الأردنية كأنها «تنظيم سياسي» أو جماعة شعبوية أو حتى حزب «غير منصف» خصوصا في الملفات الشائكة المعقدة التي قد لا يفهمها أهلها مثل الملفين الفلسطيني والسوري.
لا نقول ذلك دفاعا عن أي موقف رسمي أردني لأننا في الكثير من المحطات ونقولها بصراحة لا نفهم على الخطاب الحكومي ونخفق في تتبع البوصلة ونواجه كلفة وفاتورة غياب السرد العميق المقنع مع غياب اليقين.
لا تلام دوائر القرار الرسمي على اتجاهها للتفكير البطيء والزاحف في الملف السوري حصرا. ولا يلام الناس على مطالباتهم «غير الواقعية» أحيانا لأنهم لا يعرفون شيئا عن ما يحصل. ويجهلون أولويات وترتيبات الدولة ويخجلون من المعارضة ويصادفون يوميا وعلى كل الأرصفة «أزمة الأدوات» فيمارسون «الإفتاء والتلقين» على كبار مسؤولي الحكومة والسياسيين الرسميين باعتبارهم «الأنضج» والأكثر قدرة على التحليل والقراءة المعمقة.
واحدة من أهم القيم التي صمدت بسببها الدولة الأردنية الخبيرة من 100 عام هي تلك المتمثلة بأن القرار يتخذ بميزان دقيق وبخبرة عميقة محتواها معرفة موازين القوى
نحن بالخلاصة على المستوى الرسمي ننتقد «الجمهور» ونطالب بـ«التصفيق الدائم» لقرارات وسياسات يجهلها المصفقون، وعلى المستوى السياسي الإعلامي الشعبوي نطالب الحكومة والسلطة جراء غياب التلاقح المنتج وطنيا بسياسات أو قرارات على مقاسنا العاطفي أو الانفعالي أو التياراتي، وإن كنا سرعان ما سنحمل الدولة لاحقا مسؤولية الكلف والنتائج.
ميل الأردنيين عموما لممارسة الإفتاء السياسي بكل الملفات والقضايا فائض حقا عن احتياجات شعب تحيط به أطنان من الأزمات الحادة، ويعيش ضائقة اقتصادية ويهرف بعضه بما لا يعرف.
وميل بعض مسؤولي المرحلة بالتوازي للاستعراض واحتقار «الشفافية» والإصرار على الصمت، بالمقابل يمكن استبداله ببدء تأسيس نصوص وطنية تختبر صبر الناس ودعمهم لدولتهم في توقيت حرج وحساس، عنوانه الأعرض لعبة حدود وسيولة استراتيجية.
لا يجوز البقاء في دائرة الخطابة التي تنتقد أي قرار للدولة حتى قبل اتخاذه وتحترف المناكفة بتعجل.
ولا يجوز أيضا أن تبقي الحكومة والسلطات المواطن الأردني في «مناطق عمياء» طوال الوقت خصوصا في القضايا والملفات التي تلامس وجدان الأردنيين ومصالحهم وفي المساحات التي تؤثر على مستقبلهم حيث لم يعد سرا أن استعادة الثقة بالأطقم والحكومات ومجالس الوزراء خطوة لم تنجز بعد وتحتاج لسنوات قد تطول.
أنا كمواطن لا أريد من الدولة التصرف وكأنها خطيب مسجد أو قائد فصيل أو مرشد ثورة أو «فنان معارض» أو فرد يحترف المؤتمرات، ويستقطب أجهزة الإعلام مع الاحترام طبعا ودوما للجميع، وواجبي المهني والوطني والأخلاقي أن «أدقق» في الروايات المنقولة وأتجنب التعجل والحث والضغط في «لحظات حرجة» على أن يتضح للقاصي والداني لاحقا بأن المؤسسة «تحترم شعبها» وتأخذ مواقفه وميوله بالاعتبار.
لا بل تشركه في الاستدارة والاستشارة وتعريف التحديات والمخاطر بصيغة تضمن أن يرى الشعب الأردني عموما أنه لا يتعرض للتجهيل ولا يتجول وسط الظلام لا بل مجند مع المؤسسات والأجهزة لخدمة «الصالح الوطني».
نضم صوتنا للقائلين بأن «الخلاف حول المشهد السوري» ينبغي أن لا «يتأردن» ويتوجب أن يتحول إلى زحام اجتهادات هدفها النهائي ليس «الترحم» على طرف أو «لعن آخر» بل البحث عن أقصر الطرق لـ«حماية الوطن الأردني».
يستحق الشعب السوري فرحته وكل الخير ولا «أسف» بأي حجم على النظام السابق ولم أقابل منذ مطلع ديسمبر أردنيا واحدا لا يتعاطف مع معاناة الشعب الشقيق، أو يتمنى له الخير والمستقبل المزهر.
لكن الدرب السورية لا تزال شائكة ومعقدة وطويلة ومن غير الصحي أن لا يتوحد الأردنيون معا حول رؤية جماعية وتوافقية أو سردية وطنية لتقديم الإسناد الحقيقي لشعب جار عانى الكثير في الماضي القريب.
الأردنيون نبلاء ولا مبرر لانقسامهم بسبب الملف السوري.