«الرابية» الأردنية: تنجيم وكهنوت
الأردني البسيط مجروح بسبب ما يحصل في غزة وقلق على مستقبل أطفاله والانحرافات محتملة، هذه هي القصة بكل بساطة
ثلاثة آراء تأويلية تنتمي عمليا إلى عالم الكهنوت والتنجيم السياسي نُشرت مباشرة بعد حادثة الرابية الأخيرة في العاصمة الأردنية عمان، والتي انتهت بمقتل شاب أطلق الرصاص على دورية أمنية تحرس مكاتب خاوية لسفارة ما يسمى بإسرائيل.
الرأي الأول يريدنا أن نعتقد بأن ذلك الشاب انحرف وهاجم رجال الأمن بسبب تحريض وتشكيك بدأ بموقف الدولة منذ الثامن من أكتوبر.
الرأي الثاني غريب إلى حد ما ويقول صاحبه بأن الشاب إياه مرتبط بجهات خارجية دون أن يحددها طبعا لكن القصد المحور وإيران وحماس.
الرأي الثالث هو الأكثر غرابة ويطرح سيناريو سينمائيا: تنظيم ما خارج البلاد أو داخلها يستخدم بالعادة مدمني مخدرات لتنفيذ عمليات بعدما يبتزهم بالصنف.
الآراء الثلاثة برزت في الإعلام ولشخصيات رسمية وحكومية لكنها ناطقة باسم الولاء الذي يحتكره البعض في الأردن.
لسنا بصدد مناقشة تلك الطروحات لأنها ببساطة سقطت مباشرة في حقيقتها العلمية والواقعية بمجرد الإعلان عن هوية الشاب الذي أطلق الرصاص وقتل بفعلته واستنكره الصغير قبل الكبير في المجتمع الأردني.
الغريب جدا أن أحدا في المؤسسة الرسمية لم يراجع تلك الروايات الثلاث، وأصحابها لم يلجأ أي منهم لتصويبها بموجب ما أعلنته السلطات الأمنية رسميا أو بموجب الحقائق التي ظهرت بصرف النظر طبعا عن استنكار الفعل وما قام به صاحبه وعن تصنيفه بالفعل الإرهابي حسب النص القانوني، لأن الشاب الذي حاول إحراق مكاتب سفارة العدو كان يحمل معه 8 زجاجات مولوتوف حارقة خلافا للسلاح المنحرف الذي استخدمه في إصابة رجال أمن.
لم يعتذر أصحاب الآراء غير الواقعية عن آرائهم، والتلميحات هنا واضحة فهي مجددا تريد المزاودة على المكون الاجتماعي الأردني الفلسطيني واتهامه بتعجل، وبالنتيجة إنتاج فتنة وعلى تفسير أي انحراف جنائي باعتبار مصدره الحرس الثوري الإيراني أو غرفة ما في لبنان أو غزة حيث وهم جديد يحترف أصحابه العزف على أوتاره لسبب غامض، والأكثر غموضا أن الحكومة تستمع ولا ترد.
الأردني البسيط مجروح بسبب ما يحصل في غزة وقلق على مستقبل أطفاله والانحرافات محتملة، هذه هي القصة بكل بساطة
أحدهم أراد أن يقنع الشعب الأردني بأن تنظيما ما يخطط للمساس بأمنه واستقراره بدأ بتجنيد مدمني المخدرات أو أن مدمن مخدرات شابا وفقيرا وفقا لأوصاف البيان الرسمي يمكنه أن يصنع المولوتوف ويحصل على سلاح أوتوماتيكي مع عدة عبوات من الرصاص قبل جرعة ما من المخدر ثم يذهب في اتجاه أجندة وطنية مفترضة.
شخص آخر في موقع المسؤولية طبعا يريدنا أن نصل في الاستنتاج إلى تحميل الإخوان المسلمين المسؤولية بسبب أحقاد شخصية سابقة بينه وبين الجماعة.
هؤلاء جميعا مع الاحترام لهم دوما لا يقدمون لنا ولا للدولة لا أدلة ولا قرائن تقنع تلميذا في الصفوف الابتدائية على ما يزعمون، لكنهم فعلوا ذلك مسبقا وفعلوه أمس الأول ويصرون على فعله وقوله دون أن يردعهم أحد، والسبب مكافآت وامتيازات وأحيانا وظائف وميكروفونات تخصص لبعضهم.
الإشكال الأساسي برأينا المتواضع هو أن أصحاب الامتيازات في هوامش القرار والسلطة لا يريدون تصديق فكرة أن الشعب الأردني سئم من وجود سفارة إسرائيلية وأنه لا يريد رؤية أولاده من عناصر الأمن وهم يحرسون هذه السفارة.
السلطات حتى اللحظة لا تريد أن تصدق بأن مزاج الشعب الأردني يطالب بصيغة تقترب من الإجماع والتوافق الوطني على قطع العلاقات مع العدو الغاشم خلافا لأن الشعب يطالب بإسقاط اتفاقية وادي عربة.
السفارة الخالية تحولت إلى عبء أمني استنزافي.
الأسهل للمزاودين الذين لا يريدون الإقرار بذلك هو تحميل جهة ما في الداخل أو الخارج مسؤولية انحراف أمني قام به شاب أردني تقول السلطات رسميا أن لديه قيدا مكررا بتعاطي المخدرات.
لا أعرف سببا يدعو للاعتقاد بأن شخصا ما بسبب تعاطي المخدرات يمكنه أن يهجم على سفارة أجنبية لأسباب وطنية، ونعلم بعشرات الأسباب التي تشير إلى أن الشعب الأردني وبسبب جرائم الكيان ضاق ذرعا بالسلام الوهمي.
علينا جميعا أن نصل إلى خلاصات وطنية بدون مزاودات عنوانها الفني كيفية معالجة شعور الأردنيين كلهم بالقلق وكيفية التعاطي مع تداعيات المجازر الإسرائيلية على الشعب.
بدلا من اختلاق أوهام تتعلق بتحريض مستورد أو محلي لتبرير كل ما يحصل، لا بد من البحث عن الأسباب العميقة التي تدفع شابا أردنيا بصرف النظر عن السبب لإطلاق رصاصة على أصغر رجل أمن في البلاد يحترمه الشعب.
هنا أفترض دور مؤسسة محترمة مثل مجلس الأعيان الحرص على منع بعض الأعضاء من توزيع الاتهامات والتكهنات هنا وهناك بدون فلاتر والاستمرار في السماح لممثلين رسميين للدولة بالتحريض على مكونات في المجتمع الأردني بذريعة الحرص على الأمن والاستقرار.
الأردني البسيط مجروح بسبب ما يحصل في غزة وقلق على مستقبل أطفاله والانحرافات محتملة، هذه هي القصة بكل بساطة.