المتوسط «بيغني فلسطيني»: «لما طلعنا… يا بيروت» و«سوف نبقى هنا» عندما خلع «الجنرال» أنس الشريف بزته
هل تذكرون أغنية حركة فتح الشهيرة في الثمانينيات، التي تصدح «لا راية بيضا رفعنا يا بيروت.. ولا مشينا بهامة محنية».
نمثل جيلا ردد تلك الأنشودة على أعتاب السفن الإمبريالية، التي أخرجت الفدائيين من سواحل بيروت بقرار «إقليمي – عربي – دولي».
وهو نفسه اليوم الجيل الذي يترنم بصوت الزميل فوزي بشرى، وهو يتلو تقريره المتلفز المبدع في مقدمة تقول «لم يرفع أي منهم رايته البيضاء» على هامش مشهد يحتفل به أهالي غزة برفقة مراسلهم العملاق أنس الشريف، الذي أفلت بأعجوبة طوال 6 أشهر من طائرات الذكاء الصناعي، بعدما فتكت بأكثر من 220 شهيدا من أنبل الزملاء في ملحمة غزة.
يعجبني هذا الفتى الغزي، الذي شاهدناه مع الكاميرا يسبق القصف ويتجول بين الركام ويستذكر شهداء الصورة من الزملاء الذين قدموا بالدم شهادتهم الحية على «الهولوكوست» الفلسطيني.
الجنرال الفلسطيني الشاب يستحق مع رفاقه في سلاح الكاميرا تأسيس «أكاديمية» متخصصة بفنون الإفلات من الذخائر الأمريكية الثقيلة التي تلقى على شعوب المتوسط من أجل الكيان.. يمكن طبعا الاستعانة بوائل الدحدوح وتجربته لمتطلبات التخرج، بدلا من غثاء التلفزيونات العربية البائسة.
أه يا بيروت!
في تلك الأيام – أقصد أيام بيروت – لم يظهر ولو معلق واحد ليتهم المقاتلين بهزيمة أو مسؤولية عن مذابح صبرا وشاتيلا. آنذاك لم نسمع إطلاقا بمستشار ديني ما «يهبش الأسطورة» ويسعى لـ»خدش العملاق»، وهو يجيب بعدما تسأله مذيعة على قناة «الحدث» قائلا «اتفاقية وقف إطلاق النار في غزة سخيفة وتافهة»!
وقت بيروت لم تكن الأدبيات النضالية قد استمعت لأغنية من طراز «هز الكتف بحنية»، ولم تتجرأ أي جهة على إصدار بيان باسم منظمة التحرير يعتبر «اتفاقية وقف إطلاق النار» باطلة وتمس بالمشروع الوطني، ولم نقرأ رسالة موازية تحاول التذكير أن اتفاقية أوسلو أفرج بموجبها عن 10 آلاف أسير قبل تحويلهم إلى أشخاص هامشيين ينتظرون رواتب يتحكم بها الوزير الإسرائيلي المجرم سموتريتش.
رحم ألله من أنشد لنا «لما طلعنا وودعناك يا بيروت.. إلخ»، ورحم ألله فقيدنا الذي أنتج كتاب «أه يا بيروت».
ولا بد من الإشارة إلى أن المقاتلين في غزة رفضوا المغادرة والشعب رفض التهجير ومياه بحر غزة، وهي نفسها مياه المتوسط لفظت حتى سفن الجيش الأمريكي، التي أقامت رصيفا للأغراض الإنسانية تحدثت عن فشله لاحقا محطة «بي بي سي» في تقرير تفصيلي.
صديق أردني يساري يخاصم علنا في السياسة والأيديولوجيا الإسلاميين من نصف قرن، صدق وهو يتحدث عبر الهواء المباشر لعدة إذاعات «أعجب الأمر البعض أم لم يعجبهم.. ما حصل انتصار يشبه معركتي مؤتة وبدر».
هدنة بين غزة والعالم
المفارقة لا يمكن إلا تأملها عندما تصدر عن المذيع اللامع في قناة «الشرق» سابقا زميلنا المصري معتز مطر، وهو يشرح: «ما حصل هدنة بين العالم وأهل غزة».
والعالم في مقاصد مطر، هو الغرب، الذي هاجم مع الكيان وآزره ومده بكل أسباب القتل، والتخاذل والتواطؤ للنظام الرسمي العربي والشعوب الإسلامية.
كل هؤلاء دفعة واحدة «صمدت» غزة في وجوههم، وقالت كلمتها دون أن يتقدم أي من أولادها المعذبين بأي طلب من أي صنف وبأي وقت لصياغة «أغنية» جديدة تتغزل بعدم رفع الراية البيضاء، مع أنها حقا وصدقا، ورغم المذبحة والتخاذل لم ترفع ولا لمرة واحدة، رغم تخصص قناتي «سكاي نيوز» و»العربية» حصرا في بث كلمات لبسطاء ينتقدون فيها المقاومة وما تسببت به.
ما قاله رئيس الوزراء القطري لقناة «الجزيرة» مدهش ولافت: كل «الأشقاء» الذين أمطرونا مزاودات على قطر والمقاومة لم ينجحوا بمسح دمعة طفل فلسطيني واحد… وكل الإسرائيليين المعترضين على الوساطة والاتفاق لم ينجحوا بالإفراج عن رهينة واحدة».
فهمنا عبر «الجزيرة «أن أمير دولة قطر كان يراقب «مثلنا» تلك اللحظات المبهرة في شوارع غزة، بعد إعلان الاتفاق، حيث زمرة زملاء مراسلين ومصورين لعدة قنوات يخلعون «الترس القماشي» والخوذ أمام الكاميرات معلنين بطريقة مدهشة وغريبة للغاية نهاية الحرب في نشوة انتصار.
غزة «تبقى هنا»
القناة الإسرائيلية 14 كانت تعترض بحماس على «تجمع الأهالي في خان يونس ورفح ابتهاجا»، وعلى رصيف مقهى شعبي في عمان سرح مجالسي بتلقائية مع ملحوظة مؤثرة وعميقة، ثم صعقني بتعليق «غريب أمر هؤلاء القوم ما زالت لديهم قدرة على الابتسام والابتهاج.. مدهش جدا». تذكرت حينها محمد منير «لسه الأغاني ممكنة».
ما حصل مع أهل غزة طوال نحو 16 شهرا يصلح لإعادة تعريف «وحدات القياس».
حجم الألم والمعاناة والعذاب بعد الآن ينبغي أن يقاس مقارنة بما واجهه أهل القطاع.
لولا ذلك لسألنا مع «يوتيوبر» ناصر قنديل مجددا: كيف يقبل الكون مقتل طبيب خمسيني ورضيع «بردا» في القرن الحالي يتصادف أنهما من أمة تمتلك 40 في المئة من احتياطي النفط والغاز العالمي؟!
سؤال صعب ومعقد لا يخفف من سخف إجابته إلا صوت شباب غزة يهتفون «سوف نبقى هنا».