المصري يسأل «هل نستحق الحياة؟» تجويع غزة في أعمق «معادلات الأردن»

عمان- «القدس العربي»: المسألة لم تعد في قياسات الشعب الأردني مرتبطة بـ «عدوان إسرائيلي» على قطاع غزة ولا بحركة حماس والمقاومة والموقف الرسمي منهما.
المسالة الأردنية هذه الأيام تحديداً لم تعد جزءاً من مشهدية استمرار نفوذ التيار الإسلامي أو احتواء هذا النفوذ ضمن الاعتبارات المحلية الضاربة بقوة على أعصاب مشدودة، يقر بها ضمناً رئيس الوزراء الدكتور جعفر حسان، ظهر الثلاثاء، على هامش زيارة لمحافظة جرش، عندما يطلق عبارة غامضة دون شرح تفصيلي لها بعنوان «التداعيات الإقليمية ليست سهلة.. ثمة تحولات جذرية حولنا».
حكومة الرئيس حسان في العادة، لا تتحدث في الملفات السياسية المهمة، ورئيسها تجنب التفصيل والشرح فيما سماه «تحولات أساسية في الجوار» ودور أردني أساسي في سوريا مؤخراً، وإن كان ذلك أطلق العنان لتكهنات.
ضمناً، وقبل الحديث عن سوريا والدور الغامض فيها والمفتوح على الاحتمالات، لا بد من التذكير بأن ما يجري في غزة الآن يتدحرج ويتحول إلى قضية أردنية، مع أن من قالوا إن طوفان الأقصى معركة أردنية تم حظرهم، وساحة الاعتصامات والوقفات التضامنية باتت خالية تماماً من الجماعات التي حظرت، الأمر الذي يطرح مقاربات سياسية تستفسر عن نهايات مجمل السياسات المتبعة الآن بعيداً عن إصرار نخب سياسية بارزة على أن المواجهة تقترب بين الأردنيين وأطماع اليمين الإسرائيلي.
وهي القناعة التي عاد رئيس الوزراء الأسبق المخضرم طاهر المصري، للتحدث عنها مع «القدس العربي» بمعادلة «لم نعد نستحق الحياة إزاء الإخفاق المخجل في وقف ما يحصل لغزة على مستوى الأمة». الإحساس الأفقي بالعجز التام في مقاربة المصري الجديدة، إشكالية معقدة تملك ميكانيزم الارتداد، وعلى النظام الرسمي العربي أن يتنبه للدلالات والإشارات بعدما «فقدنا – وأنا منهم، يقول المصري- الرغبة وأحيانا الحق في الحياة «، فيما الضمير الكوني يتغافل ويفشل في وقف قتل الأطفال تجويعاً.
في المقابل، استعمل رئيس الوزراء جعفر حسان، الثلاثاء، لفظة «وحشية» في التحدث عن ما تفعله إسرائيل، قائلاً: «نأمل أن تنتهي هذه الوحشية»، لكن مقابل الأمل، لا إجراءات من حكومة الأردن أو حتى بقية الحكومات العربية، لوقف النزف خارج نطاق عقد اجتماع تشاوري على مستوى مندوبي الجامعة العربية.
يقول حسان بذلك دون أدنى التفاتة لجواب على هتاف آلاف الأردنيين مع نهاية الأسبوع وهم يعودون مجدداً إلى اتفاقية وادي عربة، ويطالبون بإسقاطها.
إن وصف أعمال إسرائيل بالوحشية لقي تفاعلاً وتجاوباً مع التحولات التي تحصل الآن في عمق المجتمع الأردني وعنوانها ليس متعلقاً بعد بالعدوان ولا بحسابات الحاضنة الشعبية الأردنية للمقاومة، بقدر ما أصبح مرتبطاً بانعكاسات حرب التجويع ضد أهل غزة على العقل الجمعي للأردنيين ونظام القيم التي تربى الشعب الأردني عليها.
التجويع الذي يحصل اليوم في غزة دخل في الاعتبارات القيمية الداخلية للأردنيين؛ لأن المسألة لم تعد تمثل حرباً أو حتى عدواناً عسكرياً، بل تنطوي على تجريف شديد للسياق الأخلاقي الذي تألفه قيم العشائر الأردنية، خصوصاً بعدما لاحظ الجميع -كما قال الناشط السياسي والعشائري محمد خلف الحديد- أن الناس في غزة يسقطون في الشوارع اليوم جراء التجويع.
ذلك بتصنيف الحديد وغيره اعتداء مباشر على كرامة الشعب الأردني، وينبغي ألا يقبله الأردنيون ولا تنفع معه معادلات الحكومة التي تقول بتثبيت الفلسطيني على أرضه والاستمرار في الإغاثة فقط بدون رفع الغطاء عن اتفاقيات التطبيع مع العدو.
التجويع بحد ذاته أصبح لاعباً على الطاولة في الملف الداخلي الأردني، والأمر هنا لا يحتاج إلى الأحزاب ولا إلى النقابات ولا حتى لتعبيرات الإسلام السياسي المحظورة، أو التي ستحظر لاحقاً، حتى يتصاعد مستوى الاحتقان في عمق مكونات المجتمع الأردني جراء ما يصفه المصري بصور الألم الموجع التي تنشر من غزة.
يمكن فهم هذه الدلالة من خلال حرص بعض الأوساط الشعبية غير المنظمة سياسياً على إيصال صوت الأردنيين؛ مرة من خلال المسيرة الحاشدة الهادفة التي نظمها أهالي حي الطفايلة الشعبي مع نهاية الأسبوع، ومرة من خلال تظاهرة أخرى بدون نكهات حزبية في مدينة إربد شمال البلاد، ومرات متعددة في عدد المبادرات الفردية والاجتماعية التي طالبت بالمسير مشياً على الأقدام نحو غزة من أجل تقديم رغيف الخبز لأهلها.
ارتفعت بحدة -كما يقدر الحديد- مستويات التأثر الشعبي الأردني، وأرتفع معها الخطاب ونبرة الخطاب والأصوات، كما أن على منصات التواصل الاجتماعي عشرات الآلاف من التعبيرات المحتقنة والدعوات لتجاوز الصمت.
وثمة تداول عنيف استثنائي بالفيديوهات والصور حول التجويع ومن يسقطون بسببه في قطاع غزة، فيما المعالجة اليتيمة التي يقترحها رئيس الحكومة علناً، هي الحرص على إيصال المساعدات والإغاثة في أصعب الظروف وتعقيداتها.
صحيح أن مبادرات الإغاثة الأردنية متقدمة على الصف العربي والإسلامي. وصحيح أن قوافل المساعدات الأردنية هي الوحيدة التي تتمكن من الوصول.
لكن صحيح، في المقابل سياسياً، أن الشارع الأردني قد لا يكتفي بذلك. والتجويع المنهجي لم يعد مدعاة استمرار في استقدام الأوراق الدبلوماسية الناعمة، ومن طرح يوماً شعار «اليوم جارك.. وغداً دارك» تجمع القرائن والأدلة على صدق مقولته.