كيف يراجع الأردن حساباته في خضم الحرب على غزة؟
إسرائيل و«القضية»… «لا تتركوا نتنياهو واليمين وحدهما في الميدان»
عمان ـ «القدس العربي»: « لا يتعلق الأمر بضمانات فقط، ولكن برقابة دولية منهجية على الأداء والخطوات وفي ظل الشرعية الدولية».
هذا هو المنطق الذي تتحدث به المؤسسة الأردنية وهي تشتبك مع تفاصيل النقاشات حول مصير ومآلات ما تبقى من عملية السلام في الإقليم، فيما بنيامين نتنياهو يناضل وهو يفاجئ الأردن مرة بعد الأخرى بإصراره على ضم غربي الضفة الشرقية.
قاعدة العمل تلك يعبر عنها بوضوح رئيس مجلس الأعيان فيصل الفايز وهو يعيد تذكير «القدس العربي» بأن المسألة لم تعد تتعلق فقط بوقف العدوان الإسرائيلي ولا حتى بمهرجانات لفظية تتحدث في أروقة المجتمع الدولي عن حل الدولتين أو عن الدولة الفلسطينية، فالأمور ـ في رأي الفايز ـ أكثر من واضحة، والمطلوب ليس خطوة واحدة أو اثنتين، بل برنامج شمولي أفقي سياسي بسقف زمني محدد مسبقاً وخطوات عميقة وجذرية وإجراءات على الأرض وبالميدان تأخذ باعتبارها مسائل متعددة، أولاها عدم التورط بالأخطاء السابقة بعد اتفاقية أوسلو. وثانياً، وجود خطة محكمة برقابة الشرعية الدولية تدخل في التفاصيل ضمن سياق زمني.
سيناريو محتمل
ترجمة ما يتحدث عنه رئيس السلطة التشريعية في الأردن بلغة الدبلوماسية التي يمثلها وزير الخارجية أيمن الصفدي، هي أن الحديث عن الوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي، وإدخال المساعدات ينبغي أن لا يمثل النقطة في نهاية السطر، فالصفدي أبلغ «القدس العربي» أن العالم اليوم أكثر إدراكاً لمستوى تأثير الصراع، وما تريده عمان هو خطة، وليس مجرد كلام أو مسار، خطة تبدأ بوقف العدوان وتنتهي بدولة فلسطينية.
عملياً، ما تحاول المؤسسة الأردنية إنتاجه وفعله اليوم هو الاستثمار في الجزء الذي سبق أن لمح له في جلسة نقاش خاصة حضرتها «القدس العربي» رئيس الوزراء الأسبق سمير الرفاعي، بعنوان عدم الاستسلام إطلاقاً للوقائع الذي يحاول العدوان الإسرائيلي فرضها على الجميع.
عدم الاستسلام أردنياً بحد ذاته، القيمة الفائضة الآن.
وعناصر الاشتباك الأردني التفصيلي مع المشهد تؤسس لسيناريو يفترض بأن اليمين الإسرائيلي بطاقمه الحالي ينبغي أن لا يترك وحيداً في المشهد لا الأمريكي ولا الدولي، والمعنى أن الضخ اشتباكياً في اتجاه خطة أشمل وأعمق لوقف العدوان على قطاع غزة هو الاستراتيجية المتبعة.
إسرائيل و«القضية»… «لا تتركوا نتنياهو واليمين وحدهما في الميدان»
وعلى هذا الأساس، توافق شخصيات في طبقة رجال الدولة من بينها الفايز ورئيس الوزراء الأسبق علي أبو الراغب والسياسي والخبير الاقتصادي المخضرم الدكتور محمد الحلايقة، على أن القناعة شبه راسخة اليوم بأن ما قبل 7 أكتوبر ليس كما بعده.
ومن ترسُّخ هذه القناعة في أروقة النخب الأردنية يمكن فهم ما يلفت نظر الحلايقة؛ فأي خطوة للأمام أردنياً في اتجاه وقف العدوان ينبغي أن تتحرك في ضوء مراجعة خطوتين للوراء لفهم أسباب ما يجري أو سيجري دون إسقاط الحساب المتعلق بتوازنات المصالح الأردنية مستقبلاً.
وتلك في تقدير الحلايقة مراجعة باتت ضرورية للحفاظ على مصالح الأردنيين دولة وشعباً، والجرأة تتطلب اقتحام التابوهات والأوهام وتنويع المصادر والمراجع اليوم، بما في ذلك الاصطفافات والتحالفات لكي يتموقع التفاوض الأردني في مقدمة الحسابات ويناور في زوايا منتجة. والسؤال يصبح كالآتي: هل يعني ذلك أن النخبة المحسوبة على الدولة الأردنية بصدد مراجعة ذاتية اضطرارية؟
طبعاً، الإجابة غامضة وحساسة على سؤال من هذا الصنف؛ لأن جزءاً حيوياً من ماكينة صناعة القرار اليوم يعمل ضمن ميكانيزم تحويل الأزمة في غزة إلى فرصة لإعادة ترسيم وتسوية عملية السلام، وبصيغة تفترض بأن السيناريو الناتج أكثر هو عدم الاستسلام لأجندة اليمين الإسرائيلي ومناجزته ومواجهته، وصولاً إلى تجميع حتى ولو بطيء، للعناصر التي تقود البوصلة في اتجاه دولة فلسطينية مستقلة.
ثمة من يشكك طبعاً بجواب السؤال نفسه على أساس أن التطبيع والانخراط في البرنامج الأمريكي في الإقليم هما عنصران يؤسسان لمناخ أردني غير مستقل بالقرار السياسي أو لا يستطيع التفاوض ولا المناورة بسبب القيود الناتجة عن ذلك الانخراط في ظل موقعه الحالي من التطبيع القدري مع الإسرائيليين؛ لأن المطلوب -وفقاً لسياسي من نمط مروان الفاعوري- هو أولاً وقبل كل شيء التحرر من قيود التطبيع والانخراط المشار إليهما، ثم تدشين حوار وطني جذري وعميق ينتقل إلى مستوى إدارة الأزمة.
فوارق ومفارقات
يرى الفاعوري ولا يعارضه الحلايقة، أن البقاء أردنياً في ظل القيود يحرم البلاد والعباد من هوامش مناورة أفضل ومنتجة أكثر إذا ما بدأت استراتيجية تفكيك قيود الانخراط والتطبيع وصيغة التحاور الوطني وتنويع التحالفات حتى يفاوض الأردني في مصالحه من موقع متقدم يلائم ويناسب تلك الدلالات العميقة لما بعد 7 أكتوبر، وتعزيز وتعميق مؤشرات الاشتباك في مقابل مشروع يميني صهيوني إسرائيلي أمريكي لن يأخذ باعتباره مستقبلاً مصالح الأردنيين الجوهرية.
انتقل الحوار بين النخب الأردنية إلى مناطق غير مسبوقة مؤخراً، والمراجعات تجري في أعمق مفاصل دوائر القرار، لكنها حتى اللحظة بطيئة وزاحفة وإن كانت عميقة ولا تستعجل الاستنتاج، فيما الملاحظات تتراكم على منهجية الاستثمار في الأزمة الحالية بصيغة تعيد التمسك بعملية سلام وهمية من الصعب استعادة سمعتها الآن بعد أعمال الإبادة.
بين هذا المنطق وذاك ثمة من يقرأ ويحلل ويعلق وسط النخب الأردنية. وبين فلسفتين في الإجابة على سؤال واحد مركزي، تبرز بعض الفوارق والمفارقات.
لكن الأردن الرسمي في الثابت والثوابت حتى اللحظة. وما يمكن اقتراحه كصيغة ما لتقريب مدرستين في الإدارة السياسية والنخبوية الآن هو فقط طريقة لجمع المتداخلين جميعاً على طاولة واحدة وتصفير عداد النقاشات وإعادة طرح كل الأسئلة التي توحي بأن اتفاقية وادي عربة وعملية السلام بعد 7 أكتوبر لن تعودا يقيناً أساساً يمكن الرهان عليه في تثبيت مصالح الدولة مستقبلاً.