اراء و مقالات

الأردن: “الإعلام مرعوب” حقا ودوما

أخفقت الحكومات المتعاقبة ومعها أطقم الإعلام في الديوان الملكي في تطوير بنية تشريعية تساند المسؤولية المهنية بدورها أو في تطوير تشريعات خارج سياق القيود المتعسفة على النشر

المسافة غير مرئية بين تلك المساحة التي تضمن حقوق الصحافي والإعلامي في العمل والتعبير بحرية، وتضمن كذلك حقوق المجتمع والآخرين، عندما يتحدث عنهم الإعلامي بعدم الاعتداء عليها أو انتهاكها او الإساءة لها.
مؤسف جدا أن الأردن يراوح مكانه للعقد الثالث على الأقل، عندما يتعلق الأمر بذلك الخلط العجيب بين الإصرار على ظواهر توقيف الصحافيين والإعلاميين، وخصوصا الجادين منهم كعقوبة مسبقة مرفوضة، وبين تلك الهوامش التي تفترض بأن الصحافي ينبغي أن يحظى بقدر من الدلال دون غيره طوال الوقت.
أخفقنا جميعا حتى اللحظة بإيجاد وصفة وطنية آمنة ومرئية وملموسة تنتهي بتطوير مفهوم المسؤولية المهنية أخلاقيا وقانونيا عند ممارسة التعبير والنشر، بحيث تكون تلك المسؤولية هي الأداة الرئيسية والمركزية في التصدي لتحرشات السلطة أو لمخازن التشريع، المليئة بالقيود والتي تحاول التحكم والسيطرة على حريات التعبير في زمن يستحيل فيه ذلك، وهو الأمر الذي لا تعلمه ولا تريد أن تتعلمه السلطة.
الإخفاق بصراحة طال الجميع فنظرية الإعلام المقموع ومعه شقيقه المرعوب هي السائدة كعقيدة في المستوى البيروقراطي.
والشخصية العامة في البلاد لا تزال تتصور بأن انتقادها وأحيانا حتى التعليق على أدائها يخدش الوطن نفسه.
أخفقت نقابة الصحافيين في تطوير مفهوم المسؤولية المهنية بحيث يتمأسس ويتقونن التمايز ما بين النقد للإعلام المختص والمهني في سياقه الأخلاقي والوطني المباح، والذي يعتبره الجميع حقا للناس وليس للصحافي فقط، وبين انفلات التعبير والنقد أحيانا والتجريح من هنا وهناك.
أخفقت الحكومات المتعاقبة ومعها أطقم الإعلام في الديوان الملكي في تطوير بنية تشريعية تساند المسؤولية المهنية بدورها أو في تطوير تشريعات خارج سياق القيود المتعسفة على النشر والتعبير فقط. وبكل صراحة أخفقت المؤسسات الحقوقية والمدنية من جهتها أيضا في وضع إطار أخلاقي يؤدي الى التفريق ما بين النقد المباح والاعتداء على حقوق وشخصيات الآخرين في السلطة والمجتمع. وكل ما تفعله المؤسسات التي تمارس الوعظ والإرشاد ضد الحكومة والسلطة والقوانين حتى اللحظة وفقط إصدار البيانات المعترضة.

أخفقت الحكومات المتعاقبة ومعها أطقم الإعلام في الديوان الملكي في تطوير بنية تشريعية تساند المسؤولية المهنية بدورها أو في تطوير تشريعات خارج سياق القيود المتعسفة على النشر

العقيدة التي لا تزال صامدة كما يعلم الخبراء في المستوى الأمني تحديدا هي تلك التي تؤمن بالضبط والسيطرة والتحكم وقمع الإعلام والإعلاميين فقط وخنق صوتهم على أساس نظرية بيروقراطية يفترض أنها تعفنت في عالم اليوم، وفكرتها أن الصحافة الحرة قد تمس بالاستقرار الاجتماعي، وتصنع حربا أهلية وما جرى في لبنان نموذجا.
رغم ذلك لم تختبر بعد النظرية المعاكسة ولا لمرة واحدة والتي تقول بأن الصحافة الحرة المستقلة المهنية تحمي المجتمع من المواجهات الأهلية، عندما يلتزم الجميع بحصتها ودورها.
لا يمكن بكل الأحوال القبول بمبدأ التوقيف للإعلاميين والصحافيين خصوصا في قضايا النشر قبل صدور قرار قضائي، تلك عقوبة مسبقة حقا، ومن يتعسف سلطويا باستخدامها يتقصد توجيه رسائل مضادة لكل ما يقال عن حرية التعبير والإعلام. لكن بالمقابل من الصعب بالنسبة لي شخصيا القبول بتلك الفوضى التي تتوسع فيما يسمى بالإعلام البديل بعيدا عن نطاق المسؤولية المهنية أخلاقيا وقانونيا، وهنا فاصل يخفق في التعاطي معه كل دعاة الحرية والتعبير وحقوق النشر.
لا بد من وصفة وطنية مهنية معتدلة تلتزم بصيانة حريات التعبير والإعلام، لكن يقابلها التزام بعدم المساهمة بانتاج الفوضى ومعايير مهنية صارمة لا تخلي مسؤولية الناشر أو الكاتب أو الصحافي دوما، من أي تبعات قانونية إذا ما تجاوز حدود النقد المباح والمعلومة الدقيقة.
باختصار ومن الآخر لا يوجد في القاموس المهني الموضوعي ما يسمى حقوقا شاملة في النشر ومعايير المسؤولية المهنية، ينبغي أن لا تسقط دوما باعتبارها مضادة لحريات التعبير، فالفارق كبير وواضح بين حريتي في الكتابة والنشر والتعليق وإبداء رأيي، وبين مهاجمة الآخرين، أفرادا أو مؤسسات، والاعتداء على حقوقهم، إما بالتجريح الشخصي أو الاتهام أو المبالغة والتضخيم أو بتقديم معلومات مضللة حتى لا نقول كاذبة أحيانا.
طبعا تتوسع السلطات في المحاكمات الجزائية في قضايا التعبير لأنها الأسرع من وجهة نظرها وتمثل رادعا يخدش في النهاية سمعة البلاد والعباد.
لكن هذا التوسع سقيم وبائس ويوحي بأزمة حقيقية فكرتها الافتقاد إلى القدرة على الإبداع والمقاربة، وعدم وجود وسائل حقيقية بين يدي السلطة وممثليها إلا تلك الأدوات الخشنة، مع أن الأدوات الناعمة متاحة لو أعيد النظر في بعض التشريعات، ولو نسخت تجربة الدول الديمقراطية بالتركيز على التعويض المدني في قضايا الإساءة.
ويبدو أن عدد المسؤولين الذين لا يريدون مغادرة هذا المأزق أكبر من عدد زملائهم الذين يريدون.
الجدل قديم ومستمر في مربع حريات الإعلام في الأردن وحبل النجاة الوحيد للجميع هو الربط عضويا بين المسؤولية المهنية كمفهوم قانوني وأخلاقي وبين المنتج الإعلامي. دون ذلك سنبقى في حالة ارتطام بالحائط ولن نجد شمعة حتى نشعلها بظلام حرية التعبير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى