اراء و مقالات

الأردن: قلم الحكومة «لا يكتب»

كانت تلك مفارقة إدارية بامتياز من الصنف الذي يلطمك عندما تضطر كمواطن لزيارة دائرة حكومية والتعامل مع البطء الزاحف وأحيانا كثرة التعقيدات البيروقراطية

وقفت أمام مكتب المديرة المختصة في إحدى الدوائر. لاحظت أنها تستخدم قلما مزركشا وخاصا لتوقيع الأوراق وسألتها لماذا تستخدمين قلما لا علاقة له بالحكومة؟
ابتسمت السيدة وفتحت لي درجا فيه عشرات الأقلام من النوع البسيط والذي يحضره للإدارات والوزارات المختصين في جهة إدارية وظيفتها توفير المستلزمات وتتبع وزارة المالية بطبيعة الحال. قالت: لاحظ أن هذه الأقلام لا تكتب، وبالتالي فهمت لاحقا أن الموظفين في تلك الإدارة على الأقل، وعلى الأرجح في جميع الإدارات في المملكة يستلمون هذه الأقلام كعهدة إدارية ويوقعون على استلامها ظنا من الوزراء الكبار أو حتى من رئيس الوزراء بأن أقلام الحكومة تقوم بواجبها وتكتب. لكن تلك الأقلام متقطعة في الكتابة والحبر وجافة ومجرد نظرة لها من أي خبير في بيع القرطاسيات يفهم أنها «خارج الخدمة».
أقلام لا تكتب ما هو السبب لا أحد يعلم طبعا. لكن الغريب كما فهمت هو أن موظفا ما يأتي بعهدة ما ويوزع الأقلام على الموظفين ثم يوقعون على أوراق استلامها ثم تشكل لجنة لتقديم القلم وأخرى لإعدامه إذا لم يكن صالحا. وتجنبا للغرق في الإجراءات يشتري بعض الموظفين أقلامهم على نفقتهم الخاصة وما يبدو عليه الأمر لي كمراجع ومواطن هو أن تلك الأقلام في مستودعات الحكومة، أما ما تم تخزينها منذ سنوات في ظروف سيئة ففسدت أو أنها أصلا نتاج عملية فيها خلل حتى لا أقول فسادا في شراء تلك الأقلام وتوزيعها على الموظفين مع أن حاجتي لورقة وقلم أصلا ينبغي أن تتوقف مع فعاليات «الحكومة الإلكترونية».
كانت تلك مفارقة إدارية بامتياز من الصنف الذي يلطمك عندما تضطر كمواطن لزيارة دائرة حكومية والتعامل مع البطء الزاحف وأحيانا كثرة التعقيدات البيروقراطية.
كنت أحمل كتابا موقعا من رئيس الوزراء، واكتشفت بأن هذا الكتاب حتى وإن وقع بموجب صلاحيات رئيس الوزراء صاحب الولاية الدستورية في البلاد، لابد من إصدار كتاب آخر شقيق له وإرسال برقيات ومراسلات وحمل عدة أوراق حتى يدخل كتاب رئيس الوزراء حيز التنفيذ مع أن هذه المسألة كلها يمكن أن توفر جهدا ومالا على الحكومة والمواطن بمعنى بمجرد صدور كتاب رئيس الوزراء ينبغي أن يدخل على جهاز حاسوب يخص جميع الوزارات و لا حاجة لمراجعة وزارة أخرى لتصادق على ما قرره رئيس الوزراء بموجب كتاب رسمي عمليا.
ثمة مشهد مثير أكثر.

كانت تلك مفارقة إدارية بامتياز من الصنف الذي يلطمك عندما تضطر كمواطن لزيارة دائرة حكومية والتعامل مع البطء الزاحف وأحيانا كثرة التعقيدات البيروقراطية

دخلت أصلا لمكتب المسؤولة الإدارية، وهو مكتب صغير بالمناسبة ومحشو في إحدى الزوايا وقابلت موظفا يجلس أمام موظفة أخرى ويضع رجلا على رجل. سألني الموظف الشاب ماذا تريد قلت له «لدي موعد مع عطوفة الأخت المديرة».. هنا فقال لي فورا «إنها في اجتماع».
سألته: لقد تحدثت معها الآن وهي بانتظاري رغم ذلك لم يظهر الموظف الذي لا يعمل بالمناسبة آنذاك ويلهي موظفة أخرى «بيطق حنك» كان يفترض أن تقوم بواجبها، لكن الشاب لم يتعاطف إطلاقا لا من قريب ولا من بعيد معي وزجرني وطلب مني أن أجلس في صالة الانتظار حتى ينتهي الاجتماع المفترض.
قررت الخضوع كمواطن مسكين بطبيعة الحال وذهبت لأجلس لكن عدت في اللحظة الأخيرة لاستخدام تلك البطاقة التي تمرر بعض الأشياء هنا أو هناك عند مراجعة الدوائر الحكومية وأستخدمها هنا آسفا لأني لا أريد استخدامها في الواقع.
قلت للموظف: أخي الكريم لقد اتصلت بعطوفتها وهي بانتظاري ولعلمك «أنا فلان الفلاني وأعمل صحافيا». فجأة تحولت الأمور وبقي الشاب جالسا ويضع رجلا على أخرى. واكتشفت لاحقا عندما استفسرت أن صاحبنا لا علاقة له أصلا بالمكتب والمكان وأنه كان حاضرا وتعثرت به بالصدفة، لا بل كان يثرثر مع إحدى زميلاته وصدمني بالعبارة التالية: «تمام ما دمت صحافيا فوت».
أدخلني الموظف أو منع إعاقتي فورا بعدما علم بأني أعمل بالصحافة.. ذلك مؤلم وموجع لأني كنت أراجع الدائرة المختصة بصفتي مواطنا أردنيا عاديا وأخفقت للمرة الألف في ميلي لعدم استخدام الصفة المهنية والوظيفية.
بكل حال دخلت على الغرفة وأنا أتوقع اجتماعا اخترقته وأشعر بالخجل واكتشفت بأنه لا يوجد اجتماع من أي صنف في مكتب المسؤولة اللطيفة.
مشهدان في زيارة بيروقراطية واحدة يقولان الكثير مما يمكن قوله عن الإدارة وحكاياتها وغياب مفهوم «خدمة المواطن» ووجود موظفين يتسكعون بين المكاتب بلا عمل محدد، أو يعيقون المعاملات ويتحمسون وطنيا بإفراط للحرص على ترديد عبارات معلبة مثل «عطوفته مشغول أو في اجتماع» مع أن عطوفته على الأرجح ليس كذلك.
خطر في ذهني تقمص حالة مستثمر ما اضطرته قسوة البيروقراطية والقطاع العام لمراجعة مماثلة.
بصراحة لو كنت أنا كذلك «لا سمح الله» وقابلت ذلك الاستقبال الكسول لراجعت بعض خططي بوضوح وإن كنا على قناعة بالحاجة للكثير إداريا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى