اراء و مقالات

نقاش صريح لكن «متلعثم»… الأردن: «إقصاء» و«حاشية مع هندسة» في حوار «الملف الاقتصادي»

عمان – «القدس العربي»: «تحرير الإمكانات لتحديث الاقتصاد».. ما الذي تعنيه بصورة محددة مثل هذه العبارة عندما تصبح محوراً في النقاش الذهني الذي يديره الديوان الملكي الأردني تحت عنوان الإصلاح الاقتصادي والإداري؟
طبعاً، لا يوجد جواب سياسي واضح أو شفاف على سؤال من هذا النوع.
لكن العبارة توحي ضمنياً، بأن الإرادة السياسية هي المحطة المطلوبة لتغيير الواقع الاقتصادي المرير، وبصورة تتطلب أن يفهم البيروقراط قبل غيره، وتحديداً المسار الأمني في تفريعاته، بأن انطلاق تحديث المنظومة السياسية يتطلب إطلاق عملية تحديث موازية لم تعد ترفاً وقد تكون مؤلمة، على حد تعبير وزير المالية المائل للصمت في الطاقم الاقتصادي للحكومة وهو الدكتور محمد العسعس.
يكرر أحد خبثاء السياسيين السؤال بصيغة أخرى: كيف تتحرر الإمكانات لتحقيق هدف نبيل مثل تحديث الاقتصاد، فيما مؤسسة دستورية واحدة تم تشريعها مؤخراً، وهي مجلس الأمن القومي الجديد، ستشرف على ما قد يصل إلى 60 % من ميزانية الدولة مستقبلاً وبدون ولاية عامة للسلطة التنفيذية أو مساءلة برلمانية واضحة الملامح، وفي ظل نصوص صارمة تعتبر أن ما يقرره مجلس الأمن القومي نافذ وفوري بمجرد المصادقة عليه؟
يحتاج إصلاح الاقتصاد الأردني لقرارات مؤلمة للبيروقراط أو لغيرهم؛ فهم لا يمثلون الطبقة الخصم هنا إذا ما قررت الدولة حقاً وفعلاً تغيير قواعد اللعب وإجراء عملية الصيانة للطائرة التي تحدث عنها رئيس الوزراء الأسبق الدكتور عمر الرزاز، أثناء التحليق فعلاً. ولم يسمع أحد عن الرزاز ومصفوفته في المسألة الاقتصادية والإجرائية منذ أكثر من عام ونصف.
ولم يسمع أحد منذ أسابيع من الحكومة التي يترأسها الدكتور بشر الخصاونة، شيئاً حول تلك العلاقة الافتراضية ما بين توصيات ومخرجات ووثيقة ورشة عمل يقيمها الطاقم الاستشاري تحت مظلة الديوان الملكي، وبين خطط التحفيز الاقتصادي وإصلاح العطب في القطاع العام، تلك التي قررتها وزارة الخصاونة ثلاث مرات على الأقل.

أين ومتى سيحصل التشبيك؟

لا أحد يخطط لإجابة على هذا السؤال، فقد حسم الخصاونة مبكراً المسألة عندما أفاد بأن نصوص الدستور لا تتضمن مبدأ الولاية العامة، وهو رأي خالفه سياسيون وقانونيون كثر في خريطة النخبة. لكن الأهم أن خطوة المقاربة في الملف الاقتصادي هنا جريئة وصريحة، فالحكومات تحجم عن الإقرار بالوقائع، ومظلة الديوان الملكي تسمح بوقف نمو استرسال الإنكار وبلمحات أو تلميحات صريحة فيما يعيق ليس فقط الاستثمار لكن النمو الاقتصادي برمته، وسط سلسلة أخطار يصر المستشار الاقتصادي البارز محمد الرواشدة، وهو يتحدث مع «القدس العربي» أكثر من مرة، على أنها أخطار وتحديات يستطيع الأردن بقواه الذاتية وثقله السياسي تجاوزها بالتأكيد لو وضعت خطة منهجية وحظيت بالغطاء السياسي، ثم تولاها طاقم في الإشراف والتنفيذ يملك ما يكفي من الخبرة والمسؤولية.
كما حصل عند تحديث المنظومة السياسية عبر لجنة رفيعة وضخمة حظيت بغطاء ملكي، تحظى ورشة عمل الإصلاح الاقتصادي والإداري بغطاء مرجعي ثقيل، لكن خلافاً للثانية، الجمهور لا يعرف ما الذي يناقشه الخبراء والمعنيون من القطاعين العام والخاص، ولا توجد رسائل شفافية للإعلام في ورشة العمل، رغم أن الواقع الاقتصادي والمعيشي معقد، على رأي الوزير العسعس، وهو يتمكن من إصلاح العطب مع المؤسسات الدولية مرحلياً. والمشهد مفتوح على احتمالات جامدة نسبياً تحت عنوان صعوبة الاستثمار في تحويل الأزمة إلى فرصة.
قبل ورشة العمل التي تخطف الأضواء اليوم وتقترب من الدخول في أسبوعها الثالث، شكلت على هامش معركة الفايروس كورونا لجان فنية واستشارية بدأت من مفهوم الأمن الغذائي والمسائل الصناعية والزراعية وانتهت بالصناعات الغذائية وجذب الاستثمارات وسلاسل التزويد وإحصاء المخزون. تقدمت تلك اللجان القطاعية بسلسلة وثائق وتوصيات لا يمكن تحديد مصيرها الآن، ولا علاقتها بما يفعله المنتدون اليوم تحت عنوان ورشة العمل.

الحاجة للجرأة

«تحرير الإمكانات» هتاف جذاب ولا ضرر فيه، لا بل مطلوب، لكنه في حاجة ملحة إلى إرادة سياسية أيضاً، وقد يكون في حاجة لتغيير بعض العقائد البيروقراطية والأمنية بالتوازي، وما يصلح من وثائق وأوراق للمتحف في الماضي لا يصلح الآن؛ ليس فقط لأن الأزمة كبيرة ومعقدة، لكن لأن الأردنيين يفقدون بوصلة الإجراء الصحيح في الوقت المناسب، ويتأخرون لا بل -وعلى رأي وزير البلاط الأسبق الدكتور مروان المعشر- لا يملكون ترف الوقت الإضافي.
فهل تلعب ورشة العمل مباراة التحديث الجديدة في المسار الاقتصادي والإداري في الوقت الإضافي بعد شوطي تحديث المنظومة السياسية ثم التعديلات الدستورية؟ سؤال يتردد ويكرس «التلعثم» في التخطيط التنفيذي.
الخشية على أهمية الطرح والاجتماعات الذهنية واردة من تكرار سيناريو ما حصل في تحديث المنظومة حين كانت الأمور في الاتجاه التوافقي الوطني قبل اجتهاد حكومي مستعجل ظهر فجأة ليخطف كل الأضواء باسم دسترة مجلس الأمن القومي الجديد. وبالتالي، حرمان حكومات المستقبل الحزبية من أي دور في الملفات السيادية الأساسية، والأهم من السيطرة على أكثر من نصف ميزانية الدولة المالية.
يحتاج الإصلاح الاقتصادي فعلاً إلى جرأة تتجاوز تلك التي جلست في عمقها شبكة تحديث المنظومة السياسية، فالأمر لا يتعلق فقط بالمصارحة والمكاشفة هنا والإقرار بالوقائع والحقائق، بقدر ما يتعلق باتخاذ إجراءات على الأرض بعضها صعب ومعقد ويتمدد، وبعضها الآخر متعلق بالحرب الموسمية والعشوائية أحياناً على الفساد، أو بتلك الرسائل التي خلطت أوراق القطاع الخاص خلال الفايروس كورونا أو دفعت ما تبقى من الطبقة الوسطة إلى الذوبان أكثر.
صحيح أن الأفكار نبيلة وممكنة وإيجابية ومطلوبة، لكن الصحيح أيضاً أن تركيبة من يتحاورون اليوم في ظل الديوان الملكي تحت عنوان تحرير الإمكانات وتحرير الاقتصاد اختيرت هي الأخرى بطريقة غريبة وشهدت في بعض تفاصيلها مزاج إقصاء طال خبراء من أبناء الدولة والقطاع الخاص مصنفين بشريحة «مغضوب عليهم» وبتقدير «الحاشية والمستشارين» فقط، وهذا إما بسبب آرائهم أو ملاحظاتهم النقدية، الأمر الذي يمكن وصفه بأبرز دليل على أن الحوار الجاري الآن، على أهميته، يفتقد -إن جاز التعبير- إلى مشاركة أسماء كبيرة لها رأي ليس في الإجراءات الاقتصادية؛ فهي تحصيل حاصل، لكن في كيفية إدارة التفكير الاقتصادي لمطبخ الدولة، مما يعني أن الطاقم الاستشاري الفني الذي هندس التركيبة أبعد البعض واختار البعض الآخر، لا بل خالف أول قواعد الحوار المنتج المتمثلة بأهمية الاستعانة بخبراء الوزن الثقيل من أبناء الدولة والقطاعين العام والخاص عندما يتعلق الأمر بمصارحة وطنية حقيقية تنتج وثيقة في سياق المصالحة الاقتصادية فيها أعلى حد من التوافق.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى