الأردن: حوار «مخاطر» أم «طرشان»؟
حتى تفهم الدولة أكثر مشاعر واتجاهات الأردنيين وأسباب قلقهم عليها أن تقترب أكثر من الناس عبر أدوات ورموز لها حضور ومصداقية
هاتفني عالم جليل وسياسي ووزير سابق في الأردن محتجا: «عن أي حوار وطني تتحدثون الآن؟».
وجهة نظر صاحبنا فيها نبرة سؤال استنكاري بعدما سلط الضوء على حاجة المشهد الوطني لحوار وطني صريح وعميق، يتعلق بتحديد استراتيجيات اشتباك مع أطماع مشروع اليمين الإسرائيلي بالأردن وليس بفلسطين فقط.
وجهة نظر المحتج هنا في اتصاله تقول: الحديث الآن عن حوارات وطنية عبث وعدمية، والمطلوب فقط على مستوى المؤسسات والمواطنين هو الاستيقاظ من وهم عملية السلام والانصراف الفوري لدعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية على أساس قناعة بأن هزيمة المقاومتين لا سمح الله وكسر رايتهما يضعف الأردن.
صاحب الرأي والاجتهاد هنا شخصية سياسية علمية معتدلة جدا، لم يعرف عنها التشدد أو التطرف في الرأي والاجتهاد، والسؤال كرره بقدر من الانفعال:
«أن نعود للجلوس معا أنا وفلان أو علان من أصحاب الألقاب والخبرة والمناصب ونغرق في تفاصيل ما تسموه حوارا وطنيا خطوة عابثة باختصار ولا معنى لها… هل تتصورون حقا إذا جلست أنا مع الفرقاء والمناظرين تحت خيمة لجنة ما تدير حوارا غامضا أن الأردن سيفلت بسبب حوارنا من المأزق الحرج المقبل؟
وجهتا نظر في نقاشات الأردنيين هذه الأيام وإنكارهما لا يفيد ويؤشر على الاسترسال في النوم العميق والكلاسيكيات التي لا تؤدي إلا إلى طريق مسدود.
وجهة النظر الأولى تقول باختصار: لا مبرر للمراوغة واللف والدوران والاستراتيجية الوطنية الوحيدة للبقاء والاستمرار هي حصرا دعم المقاومة في غزة ولبنان والضفة الغربية، والانتباه لأن أقصر الطرق في تحصين مصالح المملكة الأردنية الهاشمية هو الإيمان المطلق بضرورة انتصار المقاومة، بمعنى صمودها وأن يتحول الأردن إلى خلية عمل نشطة، هدفها الأعمق منع اليمين الإسرائيلي من السيطرة وإخضاع الشعبين الفلسطيني واللبناني.
أصحاب هذا الرأي رموز في طبقة رجال الدولة، وليس فقط معارضين سياسيين أو إسلاميين او حتى حراكيين، والرأي هنا أصبح علنيا أكثر مؤخرا، وجوهره أن الوقت يمضي وأن الحديث عن حوار وطني الآن ترف لا يملكه الأردنيون، والقصة لم تعد مرتبطة بتنويع المرجعيات والعلاقات بل بالتعامل الحيوي والفعلي مع ما يعلنه ويقرره اليمين الإسرائيلي في الميدان ومع ما يمارسه عمليا من جرائم وقحة وبشعة باعتباره إعلان حرب على الأردن.
حتى تفهم الدولة أكثر مشاعر واتجاهات الأردنيين وأسباب قلقهم عليها أن تقترب أكثر من الناس عبر أدوات ورموز لها حضور ومصداقية
يتحول أنصار هذا الرأي إلى تيار عريض يحذرون من التمسك بلعبة الأرقام ذات البعد الاقتصادي والمالي والمرتبطة بالمساعدات الأمريكية أو باتفاقيات الغاز والمياه مع الكيان العدو، ويتصورون بأن الشعب الأردني سيربط حزاما على بطنه، ويصبر ويصمد اقتصاديا ومعيشيا، إذا شاهد مؤسساته وحكومته في الاتجاه السليم والصحيح، ليس فقط مع المبدأ الأخلاقي والتضامني ولكن مع جوهر الاحتراز.
يطالب المعنيون هنا علنا باستراتيجية دعم للمقاومة، وبتجنب عبث الحوارات التي لا تقود إلى شيء محدد بالعادة.
طبعا ثمة رأي مختلف بالمقابل تتبناه حتى القوى الحزبية الأساسية في الشارع مثل التيار الإسلامي.
وهو رأي يقول بالحاجة الملحة وطنيا لحوار عميق، تجلس فيه الدولة وتشخيصاتها وتقديراتها على الطاولة مع ممثلي الشعب ومخاوف الناس واتجاهاتهم ومساراتهم.
وقد عبرت العديد من الشخصيات عن تقديرها بأن حوار المخاطر ينبغي أن تعرض أوراقه على الطاولة بشفافية الآن.
والمعنى هنا أن الشعب الأردني خائف وقلق، والتعامل مع مخاوفه هنا بالصيغ والأساليب الاستهلاكية القديمة لم يعد مقنعا، وينطوي على سذاجة سياسية، والأهم إعلاميا حيث تصدر رسائل متناقضة ومتعاكسة من مراكز القرار تنتج المزيد من التشويش في ذهن الجمهور.
ثمة وظيفة لحوار المخاطر يفترضها أصحاب هذا الرأي، وهي تبادل المعطيات ووضعها بجرأة على الطاولة، وتعريف الدولة لحساباتها وقراءاتها ثم الاتفاق على تعريفات وطنية منتجة يمكن عبرها فهم ميزان المصالح في إدارة الدولة ومؤسساتها للمشهد مقابل عرض الناس لمخاوفهم وحساباتهم.
يريد دعاة حوار المخاطر الإجابة الصريحة على بعض الأسئلة وأهمها: هل تشعر الدولة بالخطر من اليمين الإسرائيلي كما يفعل المواطن؟
ما الذي يجري في العمق من ترتيبات مع الأمريكيين تحديدا؟
لماذا تتخذ الحكومة موقفا شرسا في الحفاظ على التطبيع، وفي إغلاق النوافذ والأبواب أمام رموز المقاومة الفلسطينية واللبنانية؟
تلك أسئلة يريد دعاة حوار المخاطر إجابة علنية وشفافة عليها.
المشهد الأردني بهذا المعنى بين وجهتي نظر ولأن الأسئلة كثيرة والتطورات أكثر، يمكن القول بأن الإصغاء لرأي وآخر يحتاج إلى غرفة تداول صحيحة للمعطيات.
حتى يفهم المواطن الأردني كيف يفكر عقل الدولة عليها أن تتحدث معه وبصراحة.
وحتى تفهم الدولة أكثر مشاعر واتجاهات الأردنيين وأسباب قلقهم ،عليها أن تقترب أكثر من الناس عبر أدوات ورموز لها حضور ومصداقية.
الوصول لشراكة حتمي إذا حسنت النوايا.
دون ذلك الدعوات ضد أو مع حوار المخاطر ستصبح أقرب إلى حوار طرشان.