اراء و مقالات

الأردن: «فتاوى» الدفاع الجوي

الرواية الرسمية في مراحل ومنعطفات حرجة تحتاج عند بنائها لطبقة من «رجال الدولة» وعند ترويجها وتعميمها لطبقة من المهنيين المستقلين أصحاب المصداقية

فجأة يتحول الجمهور إلى خبراء في «الدفاع الجوي» فتبدأ موجة من الفتاوى العسكرية القتالية التي تصدر عن أشخاص خارج الاختصاص، ولا علاقة لهم بأي شأن عسكري الطابع، ومعلوماتهم عن القتال الجوي لا تتجاوز التقاط صورة لصاروخ يترنح أو جسم مسيرة يحترق.
شاهدنا كأردنيين مع موجة العدوان الإسرائيلي الوحشي الجديد على الجمهورية الإيرانية العجب العجاب مجددا. عدد كبير من الفضوليين والبسطاء والسذج انضم إلى شريحة خبراء الاشتباك العسكري في السماء. عدد الذين ظهروا على شاشات السوشال ميديا من الأردنيين وخلال 3 أيام فقط في حالات تعليق على طريقة المراسل الحربي الخبير بالقصف الجوي مرعب وأكبر بكثير مما ينبغي ويدلل على أزمة ثقافية سلوكية… غير معقول عدد البسطاء الذين قدموا أنفسهم لنا باعتبارهم خبراء يستطيعون شرح ما يجري لنا والإجابة على أسئلة معظمها ينبغي أن لا يطرح.
أحدهم وهو يلتهم صحن كنافة على أسوار منزله غربي عمان جلس يحدد لنا إحداثيات سيسقط فيها صاروخ عبر للتو من فوق مخيم البقعة.. آخر مارس الإفتاء التشكيكي وهو يزعم أن الخدمات يقدمها الأردن لحماية إسرائيل. ثالث ومن نافذة غرفة نومه التقط صورا لدفاعات جوية قرب مدينة مادبا ثم صاح بنا على الكاميرا… «ها هم الفرنسيون».
بعض هؤلاء خطط جيدا للتشكيك بموقف الدولة وهي تعلن حماية للأردنيين «إغلاق المجال الجوي».
اللافت في هذه الموجة من التشكيك حصرا أنها تدعي المعرفة المسبقة وبأن برمجية المقذوفات القادمة من إيران دقيقة 100 في المئة ولا يمكنها أن تسقط إلا في عمق الكيان. طبعا موجة الرد على هؤلاء المشككين كانت أسوأ أحيانا وتورطت وهي تردح وتصيح فقط بخطاب الوعظ والإفتاء.
ظاهرة غريبة فعلا: كثيرون يشككون أو يدافعون تحولوا لخبراء صواريخ.
مواطن طريف في منطقة صحراوية جلس قرب فوهة صاروخ محترق أسقط للتو يقدم وصلة مصورة عن الأنابيب والألياف داخل الجسم المعدني ثم صاح بالمفاجأة.». نفس المواد تستخدم في صناعة الغسالات وجلايات الصحون».

الرواية الرسمية في مراحل ومنعطفات حرجة تحتاج عند بنائها لطبقة من «رجال الدولة» وعند ترويجها وتعميمها لطبقة من المهنيين المستقلين أصحاب المصداقية

مواطن آخر صور نفسه وهو يسابق بسيارته الشاحنة صاروخا، وهو يسقط لأنه يريد أن يسقط المقذوف في كابينة الشاحنة وحمل الصاروخ معه للمزرعة.
بصراحة: جهل وادعاء وزيف وتشكيك في غير مكانه وروايات مفبركة لا معنى لها من منتقدين ومدافعين أيضا وحالة تطرف في الإفتاء الصاروخي.
وحدهم أصحاب الاختصاص قدموا روايات مقنعة، وحاول بعضهم الاجتهاد لملء الفراغ الناتج عن «إنيميا الإعلام الرسمي» فيما اختفت الطبقة، وبقي على الشاشات من يحققون نتائج معاكسة لما تريده الدولة وسط الناس دوما بسبب افتقادهم للمصداقية.
خبير واحد في الدفاع الجوي متقاعد كان مقنعا للغاية وهو يحاول إفهام المتجادلين من مشككين بموقف الدولة ومدافعين عنها ويكاد يصيح عبر أثير إحدى الإذاعات: يا قوم أصغر محترف بين النشامى يفهم الأمر المباشر بإغلاق المجال الجوي بأنه وفورا وبدون تردد أو انتظار عليه إسقاط أي جسم يتحرك في السماء ليس أردنيا حتى بدون العودة لهرم القيادة أحيانا.
ناضل الرجل وهو يشرح: إغلاق جوي يعني إغلاقا جويا بلغة العسكر… وليس مهما الجسم الطائر وقتها سواء أكان إيرانيا أو إسرائيليا أو ينتمي لجزر الواق واق، لأن الأوامر هنا واضحة ومباشرة ولا يمكن تأويلها.
عمليا الأسوأ من حملة «تشويه» موقف الأردن الرسمي في ملف «التصدي لاختراقات الدفاع الجوي» أثناء الحرب الإيرانية- الإسرائيلية هو حصرا تطوع البعض للدفاع بطريقة بائسة وسقيمة ومتسرعة عن الموقف الرسمي.
وعمليا لم أقرأ في حياتي عن أي بلد يضطر فيها العسكر للخروج للرأي العام وشرح تفصيلات «فنية وتقنية» لا علاقة للعامة بها أو لا ينبغي أن تشرح أصلا فقط لأن الجهاز السياسي والذراع الإعلامي الرسمي فاشل أو غير مهني أو لا يعرف أقرب الطرق للتحدث مع الأردنيين أو مع الإعلام المخاصم.
المواطن طبعا له «حق المعلومة». لكن ذلك الحق لا يشمل التحدث بدل الشاشة والرادار والخبراء وجماعة الأزمة وغرف العمليات ولا يشمل ضرورة معرفة التفاصيل الفنية التي تقول متى وكيف ولماذا وعلى أي أساس يتم إسقاط أو عدم إسقاط جسم طائر ودخيل.
فقط رجال الجيش خرجوا قليلا وتقدموا احتراما لشعبهم وبلدهم ببعض الشروحات التي تحاول إبلاغ الجميع بالأسباب الموجبة للسياق العملياتي الذي تقتضيه قرارات إغلاق المجال الجوي وعلى جميع الأطراف.
المفترض أن السياقات العملياتية مسائل فيها الخبرة والتفاصيل وليس من الإنصاف أن تطالب الحكومات بشرحها كلما حصلت أزمة في إقليم مضطرب مفتوح على الأزمات منذ زرع الغرب الكيان الإسرائيلي السرطاني في حضن أهل المنطقة.
الإعلام المرعوب لا يستطيع خدمة السردية الرسمية للدولة والاعتماد على الأدوات والوجوه المكررة نفسها لا يخدم أي هدف وعلى المؤسسات أن تبدأ بإدراك الحقائق التي تقول بأن الرواية الرسمية في مراحل ومنعطفات حرجة تحتاج عند بنائها لطبقة من «رجال الدولة» وعند ترويجها وتعميمها لطبقة من المهنيين المستقلين أصحاب المصداقية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من مدونة الكاتب بسام البدارين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading