الأردن في «حظر النشر»
المجتمع عمليا يقلق ذاته ويتسبب بزعزعة اليقين جراء الممارسات الفضولية وأحيانا غير المنطقية في مربع التداول العنيف للمعلومات والصور عبر منصات التواصل الاجتماعي

لماذا تتكرر قرارات «حظر النشر» حتى في القضايا المحلية وأحيانا غير المهمة في الأردن؟
سؤال يحتاج لإجابة ليست فنية أو تقنية بل سياسية بامتياز، حيث تتحول الحكومة الأردنية هنا في ظل محدودية تأثيرها الحقيقي والفعلي إلى خاصية الرواية القزم في مواجهة عملاق منصات التواصل الاجتماعي.
الأرجح أن الحرص على حماية المجتمع من أمراض «السوشال ميديا» يضطر دوائر الاختصاص في مرحلة التقاضي الأولى إلى إصدار مذكرات حظر النشر، مع أن الالتزام الفعلي بتلك القرارات لا يبدو واسعا فيما يغلفها النقاش القانوني أحيانا، خلافا لأن الإنتاجية العملية قد تكون أقل فائدة من بقاء النشر بدون حظر.
حكومات حظر النشر تبدو مضطربة ولا تؤمن بجدوى وإنتاجية إطلاق سردية إعلامية صلبة ومقنعة في رواية تلتهم روايات المجتمع التي تعوزها دوما على الأغلب الدقة والموضوعية.
قرارات حظر النشر من صلاحيات وحقوق سلطات القضاء… هذا لا جدال فيه. لكن إنتاجيتها وانعكاساتها تؤثر على تلك العلاقة المضطربة أصلا بين المواطن والسلطات والروايات الرسمية.
الثقة كبيرة بأن قرارات حظر النشر في بعض الملفات والقضايا، قد تكون ضرورية أو اضطرارية حرصا طبعا على مبدأ التقاضي القائل بسرية التحقيق وعلنية المحاكمة، وحرصا بالضرورة وفي النتيجة على مبدأ قانوني مستقر في منهجية المتهم بريء حتى تثبت إدانته، لأن روايات المنصات أحيانا تظلم المتهمين لا بل تحاكمهم نيابة عن القانون مسبقا.
في المقابل قرارات حظر النشر من الطبيعي القول بأنها تقيد حريات التعبير والإعلام وتوحي في المستوى الوطني بثقة أقل عند أجهزة ومؤسسات الحكومة وسلطات التنفيذ التي تلقي أحيانا على السلطة القضائية النزيهة بعض الأعباء السياسية والشعبوية جراء التقصير البيروقراطي.
واجب القضاء مفهوم ومعروف في الدستور ونصوص كل القوانين والحرص على روايات وسرديات إعلامية وشعبية مقنعة وذات مصداقية واجب الحكومة، وأي تقصير يسمح بروايات مضللة أو غير دقيقة سببه المباشر ضعف الإعلام الرسمي وأذرعه.
لذلك التساؤل عن سر ولغز تكرار قرارات حظر النشر في القضايا المهمة وذات البعد الجماهيري ينبغي أن يبدأ حصرا من مساءلة التقصير في الأداء الحكومي فيما إصدار قرارات حظر للنشر مرة بعد الأخرى وأحيانا بمناسبة أو بدونها يبقى مؤشرا على ضعف الثقة بالرواية الرسمية، وعلى هشاشة العلاقة بين سرديات السلطات الرسمية وما يقرأه أو يقرره المواطنون.
المجتمع عمليا يقلق ذاته ويتسبب بزعزعة اليقين جراء الممارسات الفضولية وأحيانا غير المنطقية في مربع التداول العنيف للمعلومات والصور عبر منصات التواصل الاجتماعي
الفوضى التي تزحف وتزيد عبر منصات التواصل الاجتماعي لا تعالجها قرارات حظر النشر. والأصل أن حق المواطن في الاطلاع والمعلومة يتقدم على بقية الاعتبارات.
الشكوى والتضجر والتذمر من حجم العبط الاستهلاكي في منصات التواصل لا يعالجه أيضا قانون الجرائم الإلكترونية الذي يستيقظ بنشاط وهمة عندما يتعلق الأمر بمخالفات مرتبطة بأصحاب رأي مهني ووطني مستقل أو بمعارضين، فيما يغفو ويدخل في سبات عندما يتعلق بأمراض الشبكة والتواصل التي تشيطن المعارضين الوطنيين أو حتى تبالغ في قراءات منحرفة عن النص الرسمي.
ثمة مشكلة حقيقية في الساحة الأردنية اسمها تعدد المواقع الإلكترونية وزحامها الشديد وانفلات معظمها بعيدا عن أسس المهنية وثمة مشكلة أكبر تحتاج لتشكيل لجنة مرجعية وطنية من علماء اجتماع وأطباء لمعالجتها اسمها شغف الأردنيين العمومي بمتابعة منصات التواصل وتداول معطياتها وبشكل هوسي أحيانا.
شغف الناس بتداول معلومات مغلوطة وغير حاسمة أو دقيقة لا ينافسه أي شغف آخر.
المشكلة الأكثر تعقيدا هي تلك التي تظهر عند مراقبة الفضوليين وأصحاب الكاميرات يسبقون الحدث وأحيانا يفبركون الوقائع في كل صغيرة وكبيرة فيما التباطؤ علامة مستقرة في الإعلام الرسمي فتفقد روايته وسرديته ميزة السبق والإقناع وتتجاوزه روايات غير مهنية لمواطنين بسطاء لديهم كاميرا على الهاتف ويمكنهم الإفتاء قبل الحكومة والدولة بأي قضية. والأكثر عجبا أن المواطن الذي يقضي نحو 4 ساعات على الأقل في متابعة مجموعات التواصل وما تبثه من معلومات، وأحيانا من سموم يتلقف تلك الروايات لا بل يضيف عليها، فيجتهد ويفتي ويحلل نيابة عن الدولة والخبراء معا.
يحتاج الأمر الى وقفة تأمل تغرق وتسترسل في التعقيدات وتراهن على رفع الوعي والنضج العام حتى يبدأ المجتمع ذاته في مراقبة جيش المواطنين الذي يتحول إلى جيش المراسلين لأغراض الصحافة والإعلام، حيث يهدر الناس هنا بما لا يعلمون ويتم تضخيم القضايا والجرائم، وحيث يمكن ترويج الكراهية وسط الناس في كل بساطة وتحريضهم والتسبب بجرائم.
الحقيقة والوقائع تقول: المجتمع عمليا يقلق ذاته ويتسبب بزعزعة اليقين جراء الممارسات الفضولية، وأحيانا غير المنطقية في مربع التداول العنيف للمعلومات والصور عبر منصات التواصل الاجتماعي.
تلك آفة حقيقية تطال ممارسة المجتمع لحقوقه في المتابعة والإعلام ومواجهتها غير ممكنة لا عبر قانون الجرائم الإلكترونية وتغليظ العقوبات ولا عبر إصدار قرار بحظر النشر هنا وهناك.
ما تحتاجه هذه المواجهة نخبة من مفكري علم الاجتماع والأطباء النفسيين يجتمعون ويضعون توصيات وفي الأثناء قيام مجتمع الإعلام الرسمي بواجباته.