الأردن: لعبة «روليت» ومخاطر «وطنية» بالجملة بعد استراتيجية «منع أي مكسب للمعلم»
ما هو سر النشأة والتكوين واستعصاء المعالجة؟
تبدو أقرب إلى لعبة «روليت» روسية في السياسة الداخلية الأردنية عندما يتعلق الأمر مجدداً بأزمة المعلمين التي باتت، مساء الخميس، على «استعصاء متجدد» في مسألة الإضراب، وتستيقظ صباح الأحد على خيارات أحلاها مر. يمكن ببساطة تفهم الأسباب والمبررات التي تدفع الحكومة للتشدد في المسار «المالي»، حيث أوضاع صعبة جداً للخزينة وشرائح إضافية من موظفي القطاع العام تتربص بما سيدفع للمعلمين من زيادة حتى تتحرك هي الأخرى.
لكن ما لا يصعب فهمه بعد ليس فقط الصمت على «تدحرج» الأزمة على النحو الذي حصل، بل الإصرار على «التذاكي» في اتهام طبقة المعلمين بأجندات سياسية وفي الإفلات من مطب الإضراب بأقل كلفة ممكنة والتشدد في المسار المتعلق بـ»استعادة كرامة المعلم» بعد مظاهر «الأمن الخشن».
في أقرب مسافة من مكتب رئيس مجلس النواب، عاطف طراونة، بدأ يتردد الكلام عن «استحالة تلبية مطالب المعلمين غير المنطقية»، وعن «أزمة مالية متراكمة» وبصورة تؤكد بأن الطريق مسدود على زيادة رواتب المعلمين.
هنا خطاب يغلق تماماً الأبواب، ويستعرض العضلات على شريحة كبيرة في المجتمع ينبغي على الجميع الانتباه لشكواها والحرص على منع تفاعل ونمو مشاعرها السلبية. وهنا حصل الأغرب أيضاً، فلم يتقدم أحد في الحكومة للاعتذار من المعلمين على الخشونة الأمنية التي مست بكرامتهم، ولم تحرص السلطات على «تليين» هذه الجبهة تحديداً وتحويلها ولو بإعلان مقتضب عن «تحقيق مهني» بتجاوزات فردية لرجال الأمن إلى جبهة «تغذي» سيناريو إنزال الجميع عن شجرة الإضراب.
هزيمة المعلمين في المحصلة والتعامل مع قضيتهم باعتبارها مسألة «أمن وطني» أو قضية لها علاقة بملف الحركة الإسلامية فقط ودون تدبير مسار كريم ولو قليلاً يساعدهم على العودة إلى صفوفهم، والتدريس خيار قد يكون الأصعب وسيؤدي بموافقة الوزير الأسبق الدكتور، صبري الربيحات، إلى «خسارة» لجميع الأطراف.
خطة الحكومة والسلطة حتى اللحظة وتحت ذريعة «مالية الخزينة ورائحة الإخوان المسلمين» تنحصر في ملاعبة المعلمين ومماطلتهم للأسبوع الثالث، وتحريض المجتمع ضدهم بسبب تعطيل المدارس والتلويح بخيار «حل النقابة» بذريعة مطلب شعبي.
تلك خطة «تصعيدية» بامتياز، بإجماع المراقبين لا تخدم عملياً إلا الإخوان المسلمين، ومفصلها الزمني سيكون صبيحة الأحد المقبل، حيث أول يوم دوام مدرسي في الأسبوع الثالث لإضراب هيئات التدريس التي حولت الدوام المدرسي إلى خدمات صيانة وتنظيف ولقاءات غير رسمية مع التلاميذ.
عملياً، من الصعب تصديق أن الحكومة غير قادرة على تقديم «ولو جزءاً» من العلاوة المطلوبة لتمرير الأزمة. ومن الصعب شراء الرواية التي تقول بعدم حصول «قمع وأخطاء أمنية» مست بكرامة المعلمين وتستوجب الاعتذار. والأصعب طبعاً تحليل أسباب السماح الرسمي أصلاً في اندلاع الأزمة وتوسعها، وغياب رئيس الوزراء، عمر الرزاز، وطاقمه لفترة طويلة عن «مشهد الاحتواء»، وسط تقدير سمعته «القدس العربي» من أحد الوزراء، حيث «خطة طويلة الأمد» لرفع رواتب جميع موظفي القطاع العام وصعوبة إدراك وتفهم نقابة المعلمين للأزمة في بعدها المالي وظرفياً.
مثل هذا الموقف البيروقراطي غير المفهوم يعبر عن سعي بعض الجهات الحكومية إلى «إطالة عمر الأزمة»، خصوصاً أن الحديث عن إثارة وتشويق وسيناريوهات واحتمالات لها علاقة بأضخم النقابات المهنية على الإطلاق وبقضية تمس ملايين التلاميذ وتقريباً ثلثي الشعب الأردني.
الإثارة في هذا المحور سمح لها بالولادة، وسمح لها لاحقاً بالزحف، وظهرت حكومة الرزاز عاجزة عن الاحتواء وقلقة جداً من أي استجابة مالية ولو جزئياً لمطلب المعلمين بالرغم من ملامسات «وطنية حساسة» تؤسسها اعتصامات الفروع في المحافظات والأطراف وبعيداً عن العاصمة عمان. ويبقى ما حصل في ملف إضراب المعلمين سراً ضخماً من حيث النشأة والتكون واستعصاء المعالجة.
لكن الاجتهادات البيروقراطية والقانونية وأحياناً الأمنية التي تحاول «تصليب» موقف الحكومة ستدفع ثمنها، عاجلاً أم آجلاً، الحكومة الحالية نفسها وبنفس القدر الذي تدفع فيه جميع الأطراف وبالمستوى الوطني فيه الثمن بما في ذلك نقابة المعلمين أيضاً.
الحرص بالمقابل والسهر على أن لا يحصل المعلم الأردني المنتفض على «أي مكسب» من أي نوع حتى لا تتحرك شرائح أخرى بنفس الطريقة يمكن اعتباره حرصاً بائساً للغاية. ويخلو من «الحكمة السياسية» ويؤدي لاحتقان وتخدير الأزمة ليس أكثر، خصوصاً وأن خطاب الحكومة عن «إصلاح التعليم» لا مصلحة له مع معلم صعد بصرف النظر عن السبب والخلفية على الشجرة وعاد لتدريس الأولاد وكرامته قد مست بالمجتمع.
يحتاج المشهد فعلاً لمقاربة من وزن وطني مختلف؛ لأن احتواء إضراب المعلمين بالقانون أو بأذرع السلطة أو بالتشدد البيروقراطي ورفص وصفات وسطية خيار سهل على سلطة وحكومة في نهاية المطاف. لكن الأصعب وجداً «توقع التالي» في حال «هزيمة» شريحة المعلمين، حيث لا مكاسب للدولة هنا يمكن أن يذكرها التاريخ، وحيث عملية تدريس ستقع في مطب المعلم المرهق المهزوم الذي خاض معركة خسر فيها الكثير، إن لم يقرر عقل الدولة وبحكمة وبأثر رجعي أن يكسبه «ولو القليل».