الأردن: لماذا «تتعثر» الرواية الرسمية؟
تُرك قانون الجرائم الإلكترونية في تطبيقاته البشعة يتربص بأصحاب الرأي ويستعمل بتعسف أحيانا

مجددا تغرق بعض النخب الأردنية بنقاشات حادة عنوانها «كيف نعالج أزمة الإعلام؟» والسبب واضح وصريح في عودة طرح «السؤال الإعلامي» على كل المستويات الشعبية والرسمية ومرده الحملة الظالمة التي تشكك وتشوه الدور الرسمي الأردني خصوصا على صعيد التضامن مع غزة.
ثمة إشكالية برزت فورا ـ كالعادة- في النقاشات الأولية حيث «تفكير وتخطيط انفعالي» ثم «فرقة» كاملة من «المتطوعين المزاودين» الذين أخذوا بدون ترتيب وتمحيص وتشخيص واقعي وتقني وعلمي على عاتقهم الشخصي التصدي لتلك الحملات التضليلية لكن بلهجة «خشنة وشعبوية» تعكس «الغضب» فقط ولا تخطط للسردية والرواية.
الحكومة تركب بدورها موجة الانفعال وتتجه فجأة لـ»ورقة قديمة» تضمنت توصيات في «إصلاح الإعلام» بقيت في أرشيف مكاتب القرار لأكثر من 7 سنوات وتبدأ من عند «الوصفة المصرية» الكلاسيكية في السيطرة بعنوان» تشكيل هيئة أو مجلس أعلى» يتولى شؤون الإعلام.
في الأثناء ترك قانون الجرائم الإلكترونية في تطبيقاته البشعة يتربص بأصحاب الرأي ويستعمل بتعسف أحيانا في الاتجاهات الأبعد عن الأسباب الموجبة التي وضع أو قيل إن القانون وضع أساسا من أجلها فيما يعود المشهد إلى فوضوية إصدار «التعاميم» التي لم تعد تصلح في زمن «السوشال ميديا» إطلاقا وإلى تعميق تقنية قرارات «حظر النشر».
تشعر مراكز القرار الحكومي- ولا تلام في ذلك عمليا- بأن «صحافة المنصات» أصبحت أقرب إلى صيغة «عدو الدولة» فهي تخلط الأوراق وتعرض الأطباق قبل طهيها وتسبق مبادرات الإعلام الرسمي وتصيغ روايات وفبركات فيها خيال أو عدمية.
يشعر موظفون بيروقراطيون في المستويات غير العليا بأن كبار الحكومة «غاضبون» من الروايات السلبية فيزاودون بدورهم باسم الولاء والانتماء للدولة على الجميع وتظهر مساحة «التدخلات القمعية» القائمة ليس على توجه حكومي مدروس ومقرر بل على اجتهاد شخصي لموظفين فيزيد الاحتقان وتتعثر الرواية مجددا.
تُرك قانون الجرائم الإلكترونية في تطبيقاته البشعة يتربص بأصحاب الرأي ويستعمل بتعسف أحيانا
ليس سرا هنا في «أزمة الرواية والسرد» أن «مهادنة» نخبة من معارضي ميكروفونات الخارج لعدة سنوات ولأسباب غامضة حتى الآن انتهت بوجود «ماكينات متفرغة» في الخارج تلتقط كل ما هو سلبي أو مضلل وتساهم في تغليفه وإعادة طرحه على مسامع الأردنيين الذين يظهرون شغفا بدورهم مع غياب الرواية الرسمية المقنعة في الإصغاء للروايات تلك من أشخاص حملوا فجأة وفي ظرف ملتبس لقب «معارض خارجي».
وفي الأثناء «إخفاق بيروقراطي» شامل وأفقي في الحد من «تسريبات» الموظفين العموميين ما بين غاضب أو حاقد أو متأثر خلافا طبعا لتسريب وثائق الحكومة الورقية دون أدنى معالجة لهذه الظاهرة.
الجميع وبدون استثناء يقر بأن الأزمة الوطنية الأبرز الآن هي «أزمة الإعلام».
لكن لا أحد على الأقل في المستوى الرسمي يبادر لقول الحقائق والوقائع، كما هي في التشخيص وصولا للمعالجة والحل فتتوسع الاجتهادات وتنتشر موجات التشكيك الأفقية غير المدروسة لخصوم في الداخل والخارج، ويتحول حوار السعي لإصلاح الأداء الإعلامي إلى أقرب منحنى من «حوار الطرشان» بسبب إقصاء أو إبعاد «أصحاب الخبرة المستقلين والمهنيين» ليس عن المنابر والوظائف فقط لكن عن الجلسات والحوارات.
زميل مخضرم كتب مؤخرا يقول «الطبل مهم لكن المطلوب عازف بيانو وموسيقيين» ثم صاح «أبعدوا الطبالين قليلا».
برلماني مخضرم وأمام كاتب هذه السطور اقترح تشكيل «المجلس الأعلى لتشخيص المصلحة الإعلامية».
وفي المقابل تغييب منهجي لسيناريو «التعقل» في بناء استراتيجية إعلام وطنية شاملة ومهنية مع أن بعض الوثائق المختصة مودعة في أدراج الأرشيف ويعلوها الغبار مثل العديد من الوثائق المرجعية التي تجاهلتها الحكومات المتعاقبة دون أي رد فعل أو مسؤولية.
يمكن ترديد ما يقال في الديمقراطية في ملف التطوير الإعلامي: الديمقراطية يصنعها الديمقراطيون.. كذلك الإعلام صناعة يجيدها الإعلاميون وليس راكبي موجات الامتيازات وأصحاب الطموح السياسي والوظيفي.
لا يمكن إصلاح الإعلام الوطني أو حتى تطويره والإجابة على سؤال التضليل والرواية انطلاقا من «تفكير غاضب» مبرمج على إيقاع الطبل فقط.
لا يمكن تغيير المعادلة في زمن الذكاء الصناعي الذي أدخله الأردنيون بقوة على الصناعة الإعلامية مؤخرا شعبيا باستخدام الذهنية التي تنتمي للماضي.
طبعا ودوما على مراكز القرار التوقف التام وفورا عن «توقع» نتائج أفضل وإيجابية بعد الإصرار على الإعلاء من شأن «الأدوات القديمة» والوصفات الكلاسيكية وبالتأكيد المزيد من التشريعات المقيدة لحريات الرأي والتعبير بصرف النظر عن الخلفية السياسية وغير السياسية ليست هي الخيار الأفضل لتحقيق أي إنجاز في السيطرة على الرواية والسردية.
صناعة الإعلام تحتاج لصبر وهدوء وتقنيين خبراء مستقلين لديهم مصداقية وجرأة على التشخيص والانتقاد ووضع الحلول وتقديم الدولة لبعض التنازلات البسيطة بعيدا عن التشنج والاتهام والملاحقة وتسلط البيروقراطي على «المهني والوطني».
صناعة إعلام منتج يدافع عن خيارات الدولة ومسارات القيادة ويوقف التشويه والسلبية والعدمية يحتاج لـ»هدوء وتعقل وعقول باردة» قليلا وقبل كل شيء المجازفة بفكرة أن الدولة في أمس الحاجة مرحليا لمن «يختلف معها» ويتحدث لها بجرأة دون أن «يختلف عليها».