الأردن: لماذا «سحلت» اللامركزية؟
ما الذي حصل بصورة محددة مع مشروع المجالس المحلية واللامركزية؟ هل سيواجه مشروع التحديث السياسي المصير نفسه في عهد حكومة لاحقة؟

قبل سنوات قررت لجنة استشارية ما في الأردن تحريك بعض المياه الراكدة في المجتمع ضمن جرعات الحديث الموسمي عن الإصلاحات، فاخترع القوم مشروع مجالس المحافظات واللامركزية فيها.
آنذاك بدت الفكرة نبيلة. كالعادة من أطلق تحذيرا أو من لاحظ على التفاصيل قصف بعلبة الاتهامات الموسمية، والتي تبدأ من تهمة «إعاقة الإصلاح وتقدم المجتمع» ثم تنتهي بـ «إشاعة السلبية والسوداوية».
الديمقراطية بطبيعتها ليست أصيلة، وتستخدم بين الحين والآخر لأغراض غير ديمقراطية.
انشغل الأردنيون بمشروعهم الجديد الوليد فتشكلت مجالس في الإدارة المحلية في المحافظات، قيل إنها ينبغي أن تشبه برلمانات محلية لتخفيف العبء عن البرلمان المركزي في العاصمة.
أجريت انتخابات على المستويات المحلية مرتين على الأقل، وتشكلت في المحافظات والبلديات هيئات مختلطة ما بين التعيين والانتخاب، وسرعان ما أدرك الجميع بأن المشروع على نبله القيمي نزع الدسم منه أو تم إفشاله، والفاعل دوما مجهول.
بقي لافتا للنظر أن المحذرين والملاحظين تم التشكيك فيهم واتهامهم بالتشكيك في الإصلاح، حتى اكتشف القوم أن الفكرة خرجت عن سكتها، فالمجالس الجديدة بلا صلاحيات حقيقية، ودوما بلا ميزانيات مالية والبلديات تصارعها.
في بعض المساحات والمدن والمحافظات كل ما أنجز هو طبقة وجهاء جديدة في المجتمع المحلي، سرعان ما بدأت تضغط على الحكام الإداريين والحكومة بحثا عن امتيازات ومكتسبات، وأحيانا بحثا عن مكان تعقد فيه اجتماعات لتلك المجالس التي يفرض أنها منتخبة.
بعض الوجهاء الجدد تحركوا في اتجاه ابتزاز الوزراء والحكومة والتواجد وفقا للنمط الإداري الجديد ضمن معادلة اللامركزية الإدارية ومجالس المحافظات تحول في بعض الممارسات من مفهوم الخدمة الوطنية العامة إلى مفهوم الجسر نحو الوظائف والأدوار، وأحيانا نحو مقاعد البرلمان الأساسي حيث الطموحات بالوظيفة والامتياز لا حدود لها، وحيث طبقة من الأشخاص يضغطون باسم الولاء على الدولة والوزراء.
ليس سرا أن الدولة اكتشفت تقنيات البحث عن امتيازات عند الرموز الجدد لمساحة اللامركزية.
سمعنا الديمقراطيين المحليين الجدد هنا مباشرة يطالب بعضهم بسيارات بدون جمارك أو تخصيص رواتب ومكافآت أو منحهم تسهيلات ومكاتب وقاعات اجتماع، فيما استفادت في بعض المساحات الاجتماعية العائلات التي تبحث عن وجهاء جدد ركبوا موجة اللامركزية، فظهروا أكثر في احتفالات الأعراس وبيوت العزاء.
ما الذي حصل بصورة محددة مع مشروع المجالس المحلية واللامركزية؟ هل سيواجه مشروع التحديث السياسي المصير نفسه في عهد حكومة لاحقة؟
المثير في المسألة أن الملف خضع للمراجعة وأن الحكومة الحالية ذهبت في اتجاه هندسة جيدة تعفي الأردنيين من كلفة وفاتورة هذه الممارسة الديمقراطية الزائفة تحت لافتة «الاحتياج لتخفيض النفقات».
المثير أكثر: هذه المراجعة تحصل علنا وبدون اعتراض لا في المجتمع ولا في الدولة الان وأنها مراجعة جذرية وعميقة، وليست شكلية فقط، والهدف منها الإيحاء بأن المشروع لم يكن موفقا لا بل أخفق وبوضوح، وأن المرونة الحكومية قادرة على التصويب.
لم نقرأ بيانا واحدا لأي حزب سياسي يطالب بتثبيت الشكل القديم لمجالس المحافظات ولأنماط اللامركزية.
لم ينظم الأردنيون تظاهرات في الشوارع للحفاظ على هذا المشروع كما كان، والمعنى هنا أن الفكرة التي كان يتهم من يلاحظ عليها قبل سنوات طويلة بالسوداوية والعدمية تدفن حاليا في كل هدوء، وأن بعض من يشاركون في مراسم الدفن هم الذين شغلوا الدنيا وأقلقوا الناس في الترويج للمشروع سابقا.
لا أحد في قضايا الإصلاح الإداري يحاسب أحدا. ولا أحد يراجع ما يحصل فيسأل عن المتوفى وأسباب وفاته، أو عن الإحجام عن إسعافه وإنقاذه بعد سحله علنا.
الاحتفالية المهرجانية في تسويق هذا الاتجاه في إصلاح الحكم المحلي قبل سنوات كأنها لم تكن، والحكومة تستطيع مراجعة اللوائح والتشريعات بدون أدنى اعتراض حتى من هؤلاء الوجهاء الجدد، الأمر الذي يطرح تساؤلات عميقة قليلا هذه المرة ليس عن اهتمام المؤسسات الرسمية الحقيقي العميق بالإصلاح الإداري الجذري، ولكن عن مستوى اهتمام المواطنين ومستوى الإيمان الشعبي بالديمقراطية.
يمكن قصف عمر الديمقراطية المحلية بدون أن يتأسف عليها لا الشعب ولا الدولة. ويمكن خضوع اتجاه ضخم اسمه مجالس المحافظات واللامركزية إلى عملية تصويب وتعديل بدون أدنى حتى متطلبات حوار وطنية أو لقاء استعراضي مع الخبراء.
ما تتحمس له الحكومة الحالية يمكن أن تبدله الحكومة اللاحقة بكل بساطة وبجرة قلم.
وهو ما دفعنا في الماضي القريب للقول بأن الوثائق المرجعية المتوافق عليها تكمن أهميتها في أنها تخلصنا كأردنيين من شر اجتهادات الحكومة والأشخاص شريطة تخفيف الهاجس الأمني في ملف الإصلاح برمته، وأن تدرك الحكومات المشكلة بأنها محظوظة، والمطلوب منها التوقف عن التدبير والتفكير والتأمل والتركيز على الاشتباك التنفيذي والإجرائي.
دعم اللامركزية هدر عمليا، والمسؤول المباشر غامض ولا تفسيرات. أقله قليل من الشرح لمعرفة لماذا ومن وعلى أي أساس؟
السؤال اللغم: ما الذي حصل بصورة محددة مع مشروع المجالس المحلية واللامركزية؟ هل سيواجه مشروع التحديث السياسي المصير نفسه في عهد حكومة لاحقة؟