الأردن وفيديو «الاستثمار» الطريف
الوزراء يصرون على إطلاق وعود تبالغ في الحديث عن جذب استثمارات لا يلمس آثارها المواطن

لعله الفيديو الأكثر طرافة وتداولا وسط الأردنيين عبر منصات التواصل الاجتماعي ومنذ عدة سنوات.
الحديث هنا عن شريط فيديو موسمي يظهر كلما تحدثت الحكومة عن الاستثمار وجذبه أو محاولات الإمساك به – نقصد الاستثمار- من الجاكيت أو حتى السروال.
مواطن ما يتميز بخفة الظل يخرج الفيديو من الأرشيف ويعيد طرحه مثل الأسهم للتداول كلما دق الكوز في التعديلات الوزارية حصرا على «جرة الاستثمار».
وزير سابق يظهر على الشاشة بعد «اجتماع» وصفته حكومة ذلك الزمان بـ«الاستثنائي» بوقاره ويعلن
«تحدثنا هنا عن استثمارات بقيمة 20 مليار دولار».
في الواقع تبدلت الحكومة تلك وغاب الوزير بل هاجر وأصبح مسؤولا في البنك الدولي ولم تظهر أي علامة على «تلك الاستثمارات» وما يريده من اصطاد الفيديو مجددا لتذكيرنا به التأشير على أن تلك الأرقام كانت «وهمية» أو غير واقعية.
الفيديو ذاته أصبح مشهورا ويتكرر تقريبا بمعدل مرة أو مرتين في العام الواحد منذ عام 2015.
في المحتوى المصور وزير استثمار في حكومة أخرى يعيد الكرة لكن على هامش اجتماع في مجال «الطاقة» ثم يعلنها الوزير الأنيق بدون ولو رمشة عين: «نحن بصدد استثمارات في المجال تقدر بـ5 مليارات».
لاحقا وبعد 4 سنوات وفي عهد حكومة ثالثة أحد الوزراء يصف قدراته على «جذب الاستثمار» قائلا للكاميرا: «في هذه الصالة تم توقيع وثائق بقيمة 5 مليارات».
كل تلك الأرقام تليت على مسامع الأردنيين في عهد حكومات طولب فيها الفتى «قتيبة» بأن لا يهاجر أو وزراء ألقي القبض في عهدهم الميمون على «مهاجرين أردنيين» لأول مرة في المكسيك وغواتيمالا خلافا لوزارة أوفر حظا حيث أصدرت بياناتها الاستثمارية فيما الصحافة المحلية كانت تنشر النبأ التالي «الكويت تقبض على متسولة أردنية وزوجها وترحلهما».
عموما التسول والهجرة وقصة قتيبة أحداث يمكن أن تحصل في أي بلد هذه الأيام.
وما يهمنا تسليط الضوء على الأسباب التي تدفع الأردنيين المسيسين للمناكفة بإخراج هذا الفيديو من الأرشيف بين الحين والآخر، بالإضافة إلى إظهار أمنية شخصية بأن لا يخرج وزير الاستثمار الجديد علينا بأي تصريحات قبل 3 أشهر على الأقل من الاستكشاف الميداني.
الأسباب واضحة وحادة الملامح وهي إظهار قدر من التهكم على تصريحات الوزراء التي تبالغ في الحديث عن جذب استثمارات تتمنع في الواقع ولا يلمس آثارها المواطن الغلبان مع أن الأخوة الوزراء يصرون على إطلاق وعد تلو آخر وبطريقة لا تبدو مقنعة أو منتجة وفي بعض الأحيان مثيرة للضحك.
أسابيع قليلة جدا فصلت بين التعديل الوزاري الأخير على الحكومة القائمة وبين التصريح الشهير لوزير الاستثمار الأسبق عن «فضاء استثماري» تصل قيمته إلى «50 تريليون دولار».
الوزراء يصرون على إطلاق وعود تبالغ في الحديث عن جذب استثمارات لا يلمس آثارها المواطن
الوزير وقتها تحدث على هامش مبادرة لأحد البنوك في دولة متقدمة عن نظرية في عالم الاستثمار فكرتها ببساطة – كما شرحها لي مختص من الدولة – تسويق الأردن في خارطة الاستثمار بالتأشير على الفائض الاستثماري الذي يوفره عنصرا «الجغرافيا والاستقرار العام» إضافة لاتفاقيات التجارة الحرة الأردنية مع غالبية الدول المتقدمة.
الرقم صادم جدا وقتها.. وذلك ليس هو المهم ولا تفصيلات «النحو اللغوي» التي ظهرت في عبارات الوزير بل المهم هو أن «وزير الـ50 تريليونا» إياه لم يحصل على أي فرصة لاختبار نظريته أو حتى تثبيتها في العقل الإعلامي الترويجي لأنه وفي كل بساطة غادر موقعه مباشرة تماما بعد ذلك الإفصاح المذهل.
طبعا ـ كالعادة- لا يمكن تفسير ألغاز التعديلات الوزارية.
على سبيل المثال إذا كنت مستثمرا أو مختصا بالملف لا يمكنك حتى وإن سألت الجهات المختصة تحصيل إجابة على أي سؤال يشرح لك: لماذا غادر فلان الحكومة بصورة محددة أو لماذا دخلها علان؟
أشك بأن الوزراء أنفسهم أحيانا يدركون الأسباب التي يدخلون الوزارة بموجبها أو يعلمون لماذا غادروا؟ والسبب أنهم جميعا- نقصد المغادرين- يتم إبلاغهم بأن عليهم «الاستراحة قليلا» فقط والمسألة لا تتعلق بـ«الأهلية أو القدرات».
عند العودة لملف النقاش وهو «الاستثمار» لابد من إظهار «تعاطف مسبق» مع أي موظف أو مستشار يشاء حظه العاثر حمل حقيبة اسمها «وزارة الاستثمار».
أي شخص يتولى هذه المهمة هو مشروع «متهم» مسبقا وينظر له بارتياب لا بل يعيقه بصفة خاصة ليس الشعب ولا المعارضة ولا البرلمان بل «مزاودات زملائه» الوزراء عليه وأصحاب العطوفة والسعادة في ملف «الصلاحيات وأحيانا الوطنية».
ثمة عشرات الجهات التي تمنح «التراخيص» في الأردن. وعشرات غيرها من المؤسسات المختصة بمراقبة التراخيص الممنوحة خلافا لآلاف العسس والمراقبين «المخولين بموجب قوانين وتعليمات» والذين يراقبون جميع رجال الأعمال والمستثمرين ولا أحد يراقبهم.
ثمة مناخ بيروقراطي يرتاب بالمستثمرين أصلا لا بل يطاردهم ويستهدفهم ويتهمهم ويحيل حياتهم أحيانا إلى «جحيم».
لو افترضنا أن مخترع نظريات الاستثمار تم حفر قبره وإخراجه وتولى حقيبة الدولة لشؤون الاستثمار في حكومة أردنية سيصبح السؤال كالتالي: كيف يمكن أن ينجح معالي المرحوم في جذب استثمارات وسط هذه الفوضى؟