الحصن الأردنية مدينة المساجد والكنائس والزراعة

عمان ـ «القدس العربي»: يجد البرلماني والسياسي والكاتب الأردني جميل النمري الفرصة مواتية لإعادة تسليط الضوء قليلا على مدينته أو بلدته الأم ومدينة أجداده واسمها الحصن من زاوية جيوسياسية اجتماعية لا ترتبط فقط في الهوية الثقافية الاجتماعية لأهالي هذه المدينة الشهيرة في خاصرة شمالي المملكة، لكن تتعدى باتجاه تأثير موقع المدينة في قلب سهل حوران وبالقرب من ليس في الأثر التاريخي فحسب، ولكن أيضا في بناء مشهد الدولة والنخب والرموز في الأردن مع بدايات تأسيس الأردن الحديث.
يقر النمري وهو يشرح لـ«القدس العربي» بان ارتباط بلدته الحصن بمحيطها الجغرافي شكل رافعة أساسية من روافع تأسيس الدولة الحديثة خصوصا بعد تجربة تشكيلات الحكومات المحلية أو المناطقية وأحيانا العشائرية قبل تأسيس الدولة في الوقت الذي نتج فيه عن نسبة أكبر من المتعلمين في بلدة الحصن وفي وقت مبكر بسبب مدارس التثقيف للطوائف ووجود شخصيات قيادية ساهمت عبر مواقعها ومناصبها وأدوارها في مرحلة بدايات تأسيس الدولة.
التعليم المبكر
التعليم المبكر في مدينة الحصن المختلطة طائفيا بين المسيحيين والمسلمين خطوة إضافية تظهر ما يسميه الباحث إسماعيل بركات بالدور المبكر للإطار القروي البلدي في تعزيز ثقافة التنمية الزراعية ولاحقا حركة التجارة في الواقع.
المراجع التي يشير لها بركات تقدم أدلة وبراهين على أن وجود مدينة الحصن على أطراف صحراء سهل حوران جعل لأهالي هذه المدينة وأولادها دور مبكر في التنمية المحلية وتثقيف الجوار القروي أيضا ليس فقط بسبب التعليم المبكر ولكن بسبب تشكيل مبكر للوعي الوطني في مجتمع تلك البلدة ووقوعها على خطوط اتصال برية بالحاضرة النابضة في مناطق حوران وشمالي المملكة.
وتعد مدينة الحصن الواقعة جنوب محافظة إربد، من أقدم البلدات التاريخية في شمال المملكة، إذ تحمل في اسمها دلالة واضحة على جذورها الممتدة في عمق العصور القديمة، ويعتقد أن التسمية جاءت نسبة إلى حصن قديم استخدم لأغراض دفاعية ولحماية القوافل والمسافرين عبر الطريق التجاري القديم الذي يربط بلاد الشام بشمال الأردن.
الأهم أن بلدة الحصن سميت كذلك لعدة أسباب واعتبارات قد يكون من بينها دورها في مواجهة سلسلة كبيرة من الغزوات البدوية قبل تأسيس الإمارة والمملكة وفي سنوات وأيام الصراعات ذات الطابع القبلي حيث كان الغزو يحصل للأرياف والقرى لأهداف اقتصادية.
وكان لبلدة الحصن وهو ما يصادق عليه النمري دور مركزي في تأسيس قوة موحدة لحلف القرى مسلحة وتوفر الحماية لأهالي القرى وترد الغزاة القادمين من مناطق أخرى وسط المملكة، ما دفع الأمور باتجاه دور قيادي لا بل أمني لأهالي وشخصيات ووجهاء مدينة الحصن الذين كانت أغلبيتهم في ذلك الوقت من أبناء الطائفة المسيحية من الأردنيين فيما لم يعد المشهد الاجتماعي كذلك اليوم.
الجيل الأول من أبناء بلدة الحصن كانت له بصمة في تثبيت الهوية الوطنية الأردنية وخصوصا بعد وثيقة سايكس بيكو الشهيرة وفي الحضور الفاعل لمؤتمر أم قيس الذي مثل الاتجاه الوطني لعشائر مناطق شمالي الأردن ولا يمانع أبناء المدينة المثقفين من تذكير من يسألهم بحقيقتين، الأولى أن أبناء مدينة الحصن تم تمثيلهم بشخصيتين في أول مجلس تشريعي في تاريخ المملكة. والثانية أن أبناء المدينة المسيسين النشطاء كانوا في حالة تفاضل عددي وأغلبهم توزع في الالتحاق في فصوف أوائل الشيوعيين والقوميين والبعثيين، بمعنى أن أبناء بلدة الحصن كان لهم دور مبكر أيضا في تأسيس وتجذير الانضمام للحركات القومية المبكرة مما يفسر ويبرر نفي وسجن العديد منهم طوال مراحل الأربعينيات وحتى الثمانينيات.
بصمة في العمل الحزبي
لكن الأمر قد لا يقف عند هذه الحدود، فالمؤشر البحثي الإلكتروني عند الاستفسار عن مدينة الحصن يشير إلى شخصيات بارزة مثلت تلك المدينة المهمة في الصف الأول لمواقع بدايات تأسيس الدولة الأردنية. ولاحقا بدايات التأسيس للعمل الحزبي والقومي في الأردن خلافا طبعا للعمل البرلماني والانتخابات خصوصا وأن مدينة الحصن الوادعة والتاريخية القديمة تجمع ما بين عراقة الماضي والهوية العصرية الآن.
وتقع جغرافيا في منطقة على خطوط اتصال ونقل تشهد تفاعلا مكثفا بين غالبية إن لم يكن جميع مكونات الشعب الأردني الاجتماعية.
وهي مدينة فيها مساجد وكنائس وتعتبر مثالا متقدما اليوم في التعايش ما بين المسلمين والمسيحيين وما بين الأردنيين واللاجئين الفلسطينيين أيضا، وما بين أهل العاصمة عمان والمكونات الوسطية وأهل ومكونات شمالي المملكة.
والموقع الجغرافي على خطوط الاتصال والنقل والتجارة هنا منح تلك البلدة العريقة أفضلية في تحريك العلاقات الاجتماعية المتزنة وبناء سمعة طيبة بين المكونات والطوائف تساهم في الاستقرار الأهلي واحتواء الاحتقانات ذات البعد الاجتماعي وتبادل الاحترام والحفاظ على القيم والتقاليد المستقرة في أذهان الشعب الأردني.
وتعرف الحصن، وكانت تسمى «هيبوس» وفقا لدليل أرشيفي في وثائق وكالة الأنباء الرسمية بترا، بكونها إحدى مدن الديكابوليس العشر، وتتميز بانتشار المعابد والكنائس والأنفاق الأثرية التي تربطها بسهول حوران، ما يمنحها قيمة تاريخية وحضارية، ويجعلها نموذجا للعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين.
وذلك التعايش كما يقول النمري أصبح معيارا أساسيا في فهم طبيعة المدينة الاجتماعية ويتجلى في تمركز دور العبادة ومظاهر التآلف والوحدة بين مكونات المجتمع المحلي منذ مئات السنين، فيما الحصن كانت حاضنة للعلم والثقافة، وبرز منها أكثر من 45 عالما وباحثا خلال قرن وعقدين من الزمن، وكانت مركزا إداريا يضم 14 قرية، تمتد حدودها من منطقة حوارة وحتى قضاء صخرة (الجنيد حاليا) في محافظة عجلون.
مازن مرجي وهو مؤرخ اعتبر أن الحصن كانت مقصدا للرحالة والمستكشفين نظرا لغناها الأثري والحضاري، إذ تعاقبت عليها حضارات منذ العصر البرونزي وحتى العصور الإسلامية، وتل الحصن أو «الديون»، كان موضع أطماع العديد من الممالك القديمة، ومنها مملكة باشان الآرامية، لما يتمتع به من خصوبة أرض وإطلالة استراتيجية.
المؤسس محمد الحصني
ولفت مرجي حسب أرشيف بترا إلى أن المدينة حظيت باهتمام الخلفاء الأمويين، وكانت محطة للاستقرار والراحة خلال فتوحات بلاد الشام، مشيرا إلى شخصية محمد الحصني، الولي الصالح الذي نسب للقرية، ودفن على ظهر التل في مسجد صغير يعرف باسمه، ما يعكس مكانته الروحية.
وذكر عدد من الرحالة الأجانب تلك المدينة وتلتها في مدوناتهم، من بينهم بكينغهام، وليندسي عام 1847، والرحالة الألماني سيتيزن عام 1806، وبيرك هارت الذي نزل عند شيخ القرية عبدالله الغانم.
ويضيف النمري بأن بلدة الحصن من بدايات القرن تحتفظ بقائمة من كبار المثقفين والشعراء والأدباء ورجال السياسة والفكر.
وفي سرده لسيرة بعض رموز البلدة العصريين تحدث مرجي عن سيرة الأديب والدبلوماسي عقيل أبو الشعر، أحد أبناء الحصن، الذي غادر إلى فلسطين ثم الإكوادور، حيث عمل في السلك السياسي والدبلوماسي حتى أصبح سفيرا للإكوادور في باريس، مشيرا إلى أنه أول من حمل شهادة الدكتوراه في العالم العربي، حسب توثيق الدكتورة هند أبو الشعر.
وأكد مرجي أن الحصن كانت وما زالت بيئة حاضنة للكفاءات العلمية والثقافية، إذ تتمتع بتراكم حضاري أعطاها مكانة متميزة بين المدن العربية، موضحا أن فيها أنفاقا أثرية تصل حتى مدينة أم قيس، وشكلت جزءا من نظام إنذار مبكر بين مدن الديكابوليس، عبر إشارات النار والدخان التي كانت تستخدم على نطاق واسع في الماضي.
فوق ذلك تصنف الحصن كمدنية عرفت الزراعة والفلاحة من عقود طويلة ولذلك اقترح النمري أنها كانت مطمعا للغزوات البدوية التي كانت تبحث عن الطعام. وعرفت الحصن بالازدهار الزراعي والنشاط التجاري وكانت قد برزت كمركز إنتاج للنبيذ في الحقبة البيزنطية، فيما سميت بـ«الديون»، وهو اسم مشتق من آلهة الخمر، وتشتهر بما كان يعرف بـ«المقدية»، وهي أماكن مخصصة لصناعة النبيذ، إلى جانب وجود «بيارات العسل» لتخزينه حيث تقنيات صحية في عصر النبيذ وتخزينه ولاحقا في تجارته.
بقيت الحصن ملاذا للمستكشفين ولبعض البعثات الأجنبية التي تعرف تاريخها وساهمت قدرات أهلها على التواصل في التميز باستقبال الضيوف، حيث زارها عام 2010 وفد من وكالة ناسا الفضائية الأمريكية وأسس عام 2007 متحف الحصن للتراث الشعبي الذي يوثق مظاهر العيش المشترك والمقتنيات التراثية التي تعكس هوية المدينة.
وفي مجال البصمة الأدبية أشار مرجي إلى وجود متحف الفيلسوف أديب عباسي، أحد أعلام المدينة، الذي عرف بمناظراته مع الأديب عباس محمود العقاد في ثلاثينيات القرن الماضي، ودحضه لنظرية آينشتاين، مبينا أن أبناء الحصن يسعون إلى إنشاء متحف خاص بالفنان توفيق النمري لتوثيق إرثه الفني وهو أيضا رمز كبير في عالم تأسيس الموسيقى والفن في الأردن وأحد أبناء البلدة.
الآثار والمضافات
أعيد ترميم العديد من المضافات في المدينة بمبادرات اجتماعية وتحولت تلك المضافات من دور اجتماعي إلى دور اجتماعي وطني تواصلي خلافا لدور سياسي، حيث تنظم ورش عمل ومنتديات تناقش الملفات السياسية والإقليمية وأحيانا الدولية كما تقول فدوى عيادة، الباحثة في منهجية تأسيس المدن والتي قرأت العديد من المراجع عن تأثيرات وبصمات الحصن كمدينة لديها قابلية واسعة على العطاء الثقافي وتقبل ثقافة الرأي الآخر وتؤمن بالتعدد.
ختمت وثيقة بترا بالقول: تعتبر مدينة الحصن تاريخيا من المدن العريقة والقديمة جدا ليس على مستوى الأردن فحسب بل الشرق العربي كله.
وتشير بعض المصادر إلى أنها شهدت حضارة وازدهارا في عدة عصور تركت آثارها بها، حيث تتمركز معظم هذه الآثار من كنائس ومعابد وبيوت وأنفاق في باطن تل الحصن وجواره، وهو تل صناعي تكون بواسطة تراكم الأتربة على مبانيه التي اختفت تحتها وذلك عبر العصور المختلفة التي مرت عليه، ويقع التل في الجهة الشمالية من مدينة الحصن الحالية.
وتشير سجلات دائرة الآثار العامة إلى وجود العديد من الآثار في الحصن تعود لحقب وعصور تاريخية متنوعة تشمل العصور التالية:
العصر البرونزي 3500-1200 ق.م والعصر النحاسي 4500-3500ق.م، العصر الحديدي 1200-333 ق.م والعصر العربي النبطي 400 ق.م -106 م والعصر الروماني 64ق.م-324 م والعصر البيزنطي 324-640 م وأخيرا العصر الإسلامي 640 م.
ووجود الحصن جغرافيا في موقع متوسط شمال المملكة جعلها قريبة من مراكز سياحية وتجارية هامة فهي لا تبعد بأكثر من ستة كيلومترات عن مدينة إربد مركز محافظة إربد ومركز الشمال كله، ولا تبعد عن مدينة الرمثا والحدود السورية الأردنية بأكثر من عشرين كيلومترا، وكذلك الأمر عن نهر الأردن وحدود فلسطين، كما لا تبعد عن مدن مثل المفرق وجرش وعجلون بأكثر من أربعين كيلومترا، ولا يزيد بعدها عن عمّان العاصمة بأكثر من سبعين كيلومترا.
لذلك بقيت الحصن بلدة حيوية وتتمتع بإمكاناتها البشرية الواسعة حيث هي مركز تجمع بشري واسع الثقافة والأدب وقدرات أهلها في الاستقطاب والتعليم كما يشرح النمري، جعلت من التعليم المبكر وسيلة لتنميط التواصل الاجتماعي وإظهار القدرة على التفاعل بثقافة وطنية عابرة للمكونات وللمناطقية وهو ما توافق عليه في التحليل الباحثة عيادة، التي تشير إلى أن الحصن مبكرا لعبت دورا في الحياة العامة والتحريك الاجتماعي والسياسي وساهمت في تأثير لا يمكن نكرانه بهذا المجال على مناطق شمالي المملكة.
الحصن إداريا هي المقر التاريخي للواء بني عبيد الذي يشمل كلا من قرى النعيمة وايدون وشطنا وكتم والصريح، وهي البلدة المتميزة بمقدراتها الاقتصادية الكبيرة والتي أفضل ما يبرزها لربما هو مساحة أراضيها (المساحة الكلية هي تقريبا 58 كم2) وخاصة الصالحة للزراعة الغنية والشاسعة جدا وتعتبر من أكبر البلدات مساحة في محافظة إربد.
ترتفع الحصن 550 مترا تقريباً عن سطح البحر، ومناخها معتدل، كما أنها تزهر بألوان الربيع الجميلة كل عام خلال أشهر آذار/مارس ونيسان/ابريل بصورة خاصة.
بلغ عدد سكان الحصن عام 2017 ما يزيد على 37000 نسمة، وهي تعتبر من أكبر التجمعات السكانية في محافظة إربد وإن كانت الكثافة السكانية تآكلت قليلا بحكم هجرة الأبناء من القرى للعاصمة مثل بقية البلدات التي تحادد العاصمة عمان.