
عمان ـ «القدس العربي»: الوقائع على الأرض وفي الميدان، تقول بوضوح عملياً إن المساعدات الغذائية الأردنية في ظل المجاعة الوحشية التي يتوسع نطاقها في قطاع غزة هي وحدها التي وصلت بصرف النظر عن حجمها في إطار مناورات الزوايا الضيقة سياسياً، التي خاضتها المؤسسات الأردنية مع الأمريكيين والأوروبيين تحت بند الضغط على حكومة اليمين المتطرف التي تستخدم التجويع سلاحاً منفرداً في ظل إخفاق عسكري للعدوان.
والوقائع عملياً أيضاً تشير إلى أن القيادة الأردنية بصرف النظر عن كل الجدل المحيط بمسألة خذلان النظام الرسمي العربي، أصرت على عدم الاستسلام، واتجهت الحكومة الأردنية إلى ما يمكن أو يتيسر تحت عنوان إيصال المساعدات ولو لجزء من الذين يخضعون للتجويع.
ذلك، بالمعني السياسي والمدلول العملياتي، اختراق يسجل لصالح المؤسسات الأردنية بصرف النظر عن النطاق والجدل المرتبط باستخدام الأوراق الخشنة أو الناعمة.
تذمر وشكوى
ما يقال في أروقة القرار الأردني مشروح وواضح بعنوان تضييق حتى هوامش المناورة أمام الأردن في إسناد غزة وإغاثتها بسبب موقف غالبية الدول العربية السلبي وحرصها الشديد مع النظام الرسمي الفلسطيني على إخراج المقاومة الفلسطينية من المعادلة.
في الأروقة الرسمية، ليس سراً أن الأردن يتذمر ويشتكي من أنه يترك أحياناً وحيداً، ما يضعف من قيمة المنتج والمنجز والإمكانات. لكن عمان في النهاية، تمكنت من إرسال الطحين بكمية كبيرة جداً إلى شمال قطاع غزة الثلاثاء الماضي.
قبل ذلك، كان لها دور أساسي في تجاوز حساسيات المساعدات الفلسطينية والعربية والمصرية وفي «رفض شرعنة» مؤسسة غزة الأمريكية الشهيرة، ما تسبب بإغضاب عدة دول وجهات وأطراف حيث رفض الأردن قطيعاً التجاوب عدة مرات مع مطالبات تلك المؤسسة الأمريكية بالتعاون. وحاول الأمريكيون والإسرائيليون وبعض العرب خلف الستائر تنسيق الإغاثة الأردنية مع الشركة الأمريكية والحصول على ما يوجد من خبرات ومساعدات هائلة في مخازن هيئة الإغاثة الهاشمية، لكن الجانب الأردني رفض بإلحاح.
وعمان هنا أصرت في الكواليس مؤخراً على إرسال قافلة برية جديدة تحمل مواد إغاثة غذائية انطلقت فعلاً صباح الخميس براً، وصفق لها المواطنون في الشوارع التي عبرت فيها فيما تخاض خلف الستائر معركة دبلوماسية شرسة عنوانها إن لم يكن «ضرب» خطة بنيامين نتنياهو القائلة بإخضاع المقاومة عبر سلاح التجويع، فعلى الأقل خدشها.
خفايا ملف «المساعدات» و«جدوى التشكيك»
المطلوب -برأي نائب رئيس الوزراء الأسبق الدكتور محمد الحلايقة- هو الاستمرار في الضغط أردنياً ثم عربياً وإسلامياً على أدوات ورموز الجريمة الإسرائيلية، والمعنى هنا هو الحرص على المزيد من الضغط لإدخال المساعدات.
مبادرات الدولة الأردنية ـ كما قال الحلايقة لـ «القدس العربي» ـ من الصعب إنكارها في ملف الإغاثة، وعليها أن تتوسع وتزيد باستعمال أروق الضغط القوية. والتقصير كبير ومخجل من الدول العربية والإسلامية.
لاحظ المراقبون التعليق المدروس الذي صدر عن الناطق الرسمي باسم الحكومة وزير الاتصال محمد المومني، مؤكدا بأن المساعدات الأردنية هي في نطاق الواجب الوطني والإنساني والسياسي و«ليست منة» على أهل غزة والشعب الفلسطيني، معتبراً بأن التشكيك في مواقف الأردن وجذر دعمه وإسناده للأهل مرفوض تماماً.
رفض التشكيك
لكن رفض التشكيك ينبغي أن يحصل إعلامياً على الأقل على مساحة أقل من الاهتمام الرسمي؛ فالمساعدات الآن بصرف النظر عن حجمها وظروفها، تحدث فارقاً في إنقاذ الأرواح في القطاع، الذي قال رئيس الوزراء جعفر حسان إنه يتعرض لجريمة وحشية.
الأردن من أعلى الهرم السياسي إلى كل أذرع وأجهزة الدولة هو في حالة إصرار على كسر حصار التجويع. هذا النطاق العملياتي بحد ذاته يستوجب إظهار التقدير للإجراءات والتفاصيل حتى وإن كان الموقف الرسمي عموماً يحتاج إلى مراجعات، فيما وقفات الشارع الشعبي عادت مجدداً للعزف على أوتار المطالبة بإلغاء اتفاقية وادي عربة.
إلغاء الاتفاقية -برأي وزير الخارجية أيمن الصفدي- أو تجميدها كما سمعت «القدس العربي» منه مباشرة، هو قرار سهل وبسيط لكنه قد يحرم الشعب الأردني ومؤسساته عملياً من تقديم الإغاثة والمساعدة، فيما يرى الرئيس حسان أن فكرة تثبيت الفلسطينيين على أرضهم هي جوهر العناد الأردني في مسألة تقديم المساعدة.
لكن من زاوية أخرى سياسية، فإن إدخال المساعدات جزء من ترتيبات تثبيت الفلسطينيين على أرضهم لجعل سيناريو التهجير اليميني الإسرائيلي أبعد وأكثر صعوبة، الأمر الذي ألمح الوزير الصفدي إلى أنه يتطلب البقاء في منطقة قريبة من القوى الأساسية في المعادلة الدولية، وهو خيار غير ممكن في حال تجميد وادي عربة. ويتطلب أيضاً إجراء صنف من التنسيق مع الجانب الإسرائيلي لإدخال المساعدات، ما يعني أن اتفاقية وادي عربة التي يطالب الشارع بإسقاطها أو تجميدها لها وظيفة مرحلية على الأقل في فهم المؤسسة الرسمية الأردنية، كما تسمع «القدس العربي» من غالبية المسؤولين. وهي وظيفة مارستها هيئة الإغاثة الهاشمية في غزة سابقاً وفي الضفة الغربية.
يشتكي كبار المسؤولين الأردنيين دائماً من ضعف وتردد المناورة المصرية، ومن ضعف وتردد حسابات النظام الرسمي العربي. تلك الإشارات الواقعية قد يكون لها بصمة في تخفيض سقف وهوامش المناورة أمام الأردن خلفاً لدور السلطة والشرعية الفلسطينية في السياق نفسه.
لذلك، فإن المساعدات الأردنية «ليست منة» ولا يمكنها أن تكون. لكنها وبصرف النظر عن مستوى تأثير الموقف الرسمي في القضية الفلسطينية، تشكل اختراقاً محسوساً ومرصوداً من الصنف الذي ينبغي تحفيزه وتشجيعه وليس التشكيك فيه، على أمل أن ينتهي المشهد بـ «إدخال المزيد من المساعدات ووقف إطلاق النار». وهي العبارة التي استخدمها رئيس الوزراء حسان، الثلاثاء الماضي.