كيف «تخابث» الأمريكيون مع الأردن؟… كمين بعد العزل وفتح هامش لاستعادة دور ما
وضع جديد بعد الإقرار بالمستوطنات… عمان تنتظر وصفقة القرن آتية
متتالية هندسية سياسية واضحة قوامها نعومة الملمس وخشونة النهايات والتفاصيل. هذا هو الانطباع المتكرس والمتكلس في أروقة صناعة القرار الأردني بعد صدور قرار كانت المؤسسات أصلاً بانتظاره وتتوقعه من الإدارة الأمريكية الحليفة يشرعن المستوطنات الإسرائيلية.
تلك «صفقة القرن» بحذافيرها وتطبق على أرض الواقع وفقاً لما قاله مبكراً ومحذراً لـ «القدس العربي»، رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري. حتى عند مستويات أقل في الثقافة السياسية، يرى نائب مثل يحيى السعود بأن صفقة القرن نفسها تطبق وبصورة عدائية لمصالح الدولة الأردنية.
مع الهامش الكبير في الخبرة والثقافة والاطلاع بين المصري وأعضاء البرلمان الأردني يبدو الشعور جماعياً بأن الخطر آتٍ. حتى وزير الخارجية الأسبق والمحنك ناصر جودة، وفي أروقة مجلس الأعيان، يحاول التأسيس لوجهة نظر وطنية لها علاقة بالقادم في المرحلة من تداعيات.
يعلن وزير الخارجية الأمريكي، وعلى طريقة حسم ملف القدس، شرعنة المستوطنات بعد أيام فقط من استضافته لمجموعة من وزراء الخارجية العرب تحت عناوين لها علاقة مرة بالإرهاب ومرات بالملف السوري.
يحتك وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بالأمريكيين، ولا يتم إبلاغه بشيء ومحدد.
الشعور في المقابل في غرفة القرار الأردني واضح، فالإدارة الأمريكية لم تعد تجد نفسها مضطرة أصلاً لتسمية خطوات بأن لها علاقة بما يسمى بصفقة القرن، فتلك إدارة تحوّل – ولو ببطء أو بتسارع – تلك الصفقة المشبوهة والمزعومة إلى وقائع على الأرض، ودون تسميتها؛ تجنباً لإحراج الحلفاء العرب في دول مثل مصر والسعودية والأردن والإمارات.
قالها جاريد كوشنر مبكراً على هامش حوارات صاخبة في رام الله: نحن أصلاً لا نشاوركم.. نتخذ الإجراءات التي نرى أنها تكرس وقائع عملية السلام، ويمكنكم طبعاً الاعتراض عليها أو الاحتجاج ضدها. وقيل شيء مماثل في عمان أيضاً، ورد فلتر أردني بتوضيح مباشر عبر «القدس العربي» يشير إلى أن المملكة لا تتحدث لغتين أو لهجتين في ملف ما يدعى بصفقة القرن. لكنها صفقة تتحول إلى واقع جغرافي وتاريخي وسياسي دون حتى تسمية.
في مقايسات لاعب مخضرم وخبير بالإسرائيليات مثل عدنان أبو عودة، الوقائع على الأرض تتجاوز الانطباعات والاعتراضات. لكن مستويات القرار الأردني تعرف أيضاً مسبقاً بأن شرعنة وزير الخارجية الأمريكي للمستوطنات الإسرائيلية خطوة كانت متوقعة، وتسبق عملياً خطوة أخرى متوقعة بالطريق لها علاقة بضم المستوطنات بعد الاعتراف الأمريكي رسمياً لما يسمى بدولة إسرائيل، ثم تغيير وقائع الجغرافيا في الضفة الغربية ومحاذاة قطاع غزة بإعلان ضم «مناطق سي» أيضاً.
هنا حصرياً تخابث الأمريكيون بقسوة رغم نعومتهم اللفظية مع لاعب أساسي في هذه المتتالية الهندسية السياسية المرسومة مع الأردن.
كيف تمت عملية التلاعب؟.. هذا سؤال تجيب عليه التفاصيل المقلقة فقط، فقد تعرض الأردن لأكثر من عام ونصف عام لضغط اقتصادي عنيف، وبقي من دون تسمية سفير أمريكي في عمان، وعزل دوره الإقليمي تماماً وأرهق بمشكلاته وأزماته المالية. فجأة، وفي ظل الإرهاق الأردني ومخاطر الاستقرار الداخلي الناتجة عن شكوى موظفي القطاع العام ومؤشرات التمرد في بعض مفاصل البنية العشائرية والبيروقراطية، قررت واشنطن فتح نافذة صغيرة لكي ينشط فيها الأردن لاستعادة مصالحه أو ما تيسر منها.
ضمن هذه الـ»فجأة»، تغيرت معطيات، وبسرعة فتحت السعودية ذراعها بنعومة لحوار استثماري تضامني، وعينت الإدارة الأمريكية بصورة مباغتة دبلوماسياً مخضرماً سفيراً «مفوضاً» في عمان، وتلك صيغة -برأي الخبراء- تعني سفيراً فوق العادة، ولا يحتاج إلى المصادقة على بعض القرارات.
فجأة أيضاً، دعم الأمريكيون خطط التواصل الاقتصادي بين الأردن والعراق ومصر، وأصبح للأردنيين هامش قصير للغاية من الحركة في الأجندة المعادية لإيران بالعمق العراقي، وبقي الوزير الصفدي جالساً بين الحين والآخر على الطاولة التي تناقش مستقبل سورية.
ثم طولب الأردنيون بإصلاح وضعهم الإداري الداخلي وزرع الأمل بينهم بالإفراج عن مزيد من المساعدات. وعملياً، لا يجد الأردني خياراً إلا الاستثمار في الهامش المشار إليه، حيث دولة مثل بريطانيا تحاول إظهار التضامن، وأخرى مثل ألمانيا بالجوار تزيد من المساعدات فجأة أيضاً لتحتل المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة.
وسط هذا الهامش التكتيكي المرسوم بعناية على شكل كمين سياسي، اضطر الأردن الرسمي للتحرك بدلاً من الاستمرار في منطقة الحياد والجمود، ثم جلد الجميع بالتتابع بقرار بومبيو المتعلق بالمستوطنات لإنتاج وخلق وقائع جديدة من الصعب تكريسها من دون دولة مثل الأردن، بحكم الاستحقاق الجغرافي والسياسي قبل أي اعتبار آخر.
في الخلاصة، ثمة كمين ناعم الملمس وخشن الأرضية من النوع الذي اضطر الأردني للجلوس فيه بـ»رغبة».. تلك جملة عصبية دبلوماسية تكتيكية تعني عملياً أن البقية – ونقصد بقية صفقة القرن – تأتي أو ستأتي ودون أن تهتم واشنطن بأي صراخ ناتج عن الرئيس محمود عباس ومجموعته أو حتى عن صديقه في البرلمان الأردني يحيى السعود وغيره.