اراء و مقالات

مدينة السلطان هيثم العُمانية: خليط بين الأصالة والمعاصرة

هل السعادة مكان؟

هذا هو السؤال الذي يطرحه مجموعة كبيرة من رموز العمل العمراني وتخطيط المدن في سلطنة عمان على هامش «مؤتمر أكتوبر -العمران» المختص بالتخطيط العمراني بصفة عامة باعتباره صناعة تجذب الاستثمار. الممثلة العمانية المعروفة بثينة رئيسي طرحت في مادة مصورة على المؤتمرين ذات السؤال بصيغة فلسفية وهي تحمل خرائط ومستندات وتحكي عن مادة «الصاروج» الطينية الشهيرة التي كانت أساس تشييد الأبنية في السلطنة ولا تزال تستخدم في صناعة العمران حديثا.
تجولت «القدس العربي» في فعاليات هذا المؤتمر وحضرت العديد من المجالسات الذهنية الخبيرة، لكن ما لفت الأنظار أكثر من أي اعتبار آخر هو ذلك المجسم التشبيهي اللامع لمدينة جديدة ستقام في حضن مدينة مسقط لا بل في المناطق التي كانت قديمة منها في مشروع ضخم سيحمل إسم «مدينة السلطان هيثم».
تلك مدينة تحت الإنشاء الآن ويتعامل معها أبناء السلطنة بشغف باعتبارها أحد المشروعات الأساسية في السياسة العمرانية المستحدثة وتطوير الصناعة العقارية في مدينة مسقط التي تمثل قلب سلطنة عمان.
محافظة مسقط تستضيف مدينة السلطان هيثم على أرض كانت فيها تلال وجبال لكن تمت تسويتها بحيث انها مدينة عصرية حديثة تحمل إسم السلطان هيثم وتعتبر واحدة من المشاريع الضخمة التي أرادت السلطنة عبرها إظهار ما اتفق على تسميته بالفكر العمراني والتخطيطي للمدن الحديثة وعلى أساس مزيج يجمع الأصالة بالمعاصرة ويلبي مقتضيات ومتطلبات المدينة العصرية الحديثة لكن بدون إسقاط الاعتبارات المتعلقة بالتاريخ والتراث والمألوف الاجتماعي في سلطنة عمان.

الإنسان والمكان

على هامش المؤتمر وضعت لوحة عريضة جدا بالألوان والأضواء المناسبة تجسد مدينة السلطان هيثم الجديدة وفي الملصقات المرافقة للشروحات السؤال المركزي هل السعادة مكان؟
فعاليات المؤتمر الذي تحدث بانسياب عن المعمار في مسقط تمحورت في الكثير من أسئلتها وإجاباتها على تلك العلاقة بين الإنسان والمكان.
يحاجج الخبراء العمانيون بهذه الفلسفة العمرانية.
وما يبدو عليه الأمر أن مدينة السلطان هيثم هي أول خطوة باتجاه الربط بين مقولة السعادة ومسألة المكان من حيث الاختيار ضمن أسس ومعايير وطنية ومن حيث الحرص على عدم مغادرة المألوف الاجتماعي العماني، بمعنى أن السلطنة في التخطيط العمراني للمدينة العصرية الحديثة التي تقام على قطعة أرض واسعة جدا وفي حضن العاصمة مسقط وبالقرب من سلسلة هضابها وجبالها دون الالتزام المفرط بمعايير المدن العصرية لا من حيث وجود أبراج سكنية، ولا من حيث إدخال عناصر مرتبطة حصرا إما بجذب المال والاستثمارات أو بالإنفتاح السياسي على تفاصيل تلك المدينة.
سألت «القدس العربي» شابة عمانية مسؤولة عن التخطيط للمدينة الجديدة عما إذا كان الهدف من مجمعات الإسكان في مدينة السلطان هيثم هو استقطاب واحدة من الشرائح الثلاث على المستوى العقاري أو على مستوى الصناعة العقارية، الفقراء أم الطبقة الوسطى أم الطبقة الثرية القادرة على الدفع؟
كانت الإجابة لافتة للنظر، فالشابة العمانية تتحدث عن مدينة صممت لكي يتواجد فيها الجميع بمن فيهم من يملك المال ويستطيع شراء عقار أو فيلا في تلك المدينة وبمن فيهم الطبقة الوسطى بطبيعة الحال مع الإشارة إلى ان حصة الفقير أو الطبقات الأقل دخلا موجودة في تلك المدينة الجبلية المثيرة للانتباه، حيث أن ذوي الدخول المحدودة لديهم تسهيلات في الدفع وأقساط ميسرة ولديهم طبعا بعض مرافق السكن والإقامة المتعددة حسب المساحات المطلوبة وفي ظل الدخل في حضن المدينة الجديدة التي تحاكي أحدث المدن العصرية بعد سلسلة من التجارب وتبادل الخبرة والاطلاع على سلاسل التخطيط العمراني من أوروبا إلى الهند إلى الشرق الأوسط ثم الصين ثم دول آسيا وحتى أفريقيا.

للفقراء أيضا حصة

الفقير من أبناء السلطنة يستطيع الحصول على قطعة أرض في المدينة الجديدة ثم الحصول على وحدة سكنية مقابل الحد الأدنى من الرسوم والمال. والطبقة الوسطى أمامها فرصة متزنة بأسعار معقولة وتمويلات مبرمجة.
في عمق المدينة سلسلة من الحدائق العامة ومشاريع التنزه والمرافق الصحية ومرافق الاتصالات وبنية المدينة الجديدة تأخذ بالاعتبار كل ما يمكن ان تجود به الطبيعة من اشكالات ومخاطر. وهو ما أوضحه مسؤول بارز في وزارة الإسكان والتخطيط العمراني. بكل حال أما الأثرياء سواء من العمانيين أو من غيرهم فلديهم فرصة للإقامة وشراء عقار بأقصى مواصفات الترفيه والتكنولوجيا بنفس الوقت لكن بدون إفراط في المظاهر الترفيهية ضمن معادلة لا يجدها في الواقع إلا العقل العماني.
بكل حال مدينة السلطان هيثم حاضرة بقوة في وجدان العمانيين وأغلب التقدير أن المشروع سينتهي في عام 2030 لكن مرحلته الأولى التي بدأت وهي في منتصفها الآن ويعتقد أن المدينة الجديدة بكامل بهائها وهيئتها قد تفتح رسميا في عام 2040.

تجنب إغراء المال والتقليد

وما يقوله الوزير المختص للتخطيط العمراني والإسكان الدكتور خلفان الشعيلي ردا على سؤال لـ«القدس العربي» بعنوان كيفية وأسباب وخلفية تجنب إغراء جذب المال والانفتاح السياحي، هو أن التخطيط العمراني بالنسبة لسلطنة عمان تخطيط تكاملي، فالسلطنة لا تريد فقط جذب المال ولا تريد فقط إعداد المساكن لذوي الدخول المحدودة لأن 90 في المئة على الأقل من المواطنين العمانيين تمنحهم الدولة قطعة أرض لأغراض السكن مع طبعا قروض ميسرة لإقامة ذلك السكن.
وبالتالي مشاريع العمران حسب الوزير لا تهدف كما في بعض تجارب الدول العربية لجذب المال والاستثمار حصرا وفقط بدون طبعا إسقاط ذلك الاعتبار في التخطيط وجذب الاستثمارات، ولا تهدف فقط لتسكين المواطن الفقير وإقامة مساكن لذوي الدخول المحدود، بل تجمع كل الاعتبارات وتأخذ بالاعتبار البيئة والمزج بين كل الأهداف المرتبطة بالتنمية الحضرية والاعتقاد سائد بالنسبة للوزير العماني بأن هذا هو الحل الأمثل والنموذج الأفضل.

جديد المدينة

والجديد تماما في مدينة السلطان هيثم أنها وللمرة الأولى تتضمن إطارا تشريعيا ونظاميا وقانونيا يسمح بتملك الأجانب ولا يقتصر الأمر على العمانيين لكن ضمن حدود وقيود محددة يتم التوافق عليها.
والمشروع العملاق لهذه المدينة بدأ في الواقع يستقطب كبار المنشغلين في سوق الصناعة العقارية سواء من دول آسيوية أو حتى من أشقاء في بعض الدول الخليجية بما في ذلك شركات العقار المصرية.
والوزير العماني أقر بانه زار مع خبراء وزارته التجارب المرتبطة بتخطيط المدن والعمران من المغرب العربي إلى دول أفريقيا إلى مصر إلى بقية دول الخليج إلى الصين وآسيا وحتى أوروبا.
وبالتالي تحت بند تبادل الخبرات وتراكم المهارات والمعرفة تم الاتجاه نحو تأطير نموذج خاص في العمارة العمانية يمكن طبعا أن يكون قابلا للتصدير باعتباره تعبيرا عن هوية ثقافية للسلطنة وأهلها ومزيجا يأخذ بالاعتبار الأمن البيئي واحتياطات التعاطي مع الطبيعة بما في ذلك الكوارث المحتملة وصلابة البنيان ومادة صناعة العقار وكيفية تخطيط المدن أفقيا وعموديا.
وعليه يمكن القول إن مدينة السلطان هيثم بهذا المعنى صممت قصدا في إطار تلك النظرة للمزيج العمراني القابل للتسويق بالخارج والاستثمار باعتباره منتجا مغرقا في عمانيته في وسط أحضان مدينة مسقط العاصمة العريقة.
أربعة مراحل

وبما أن المدينة تحت التأسيس فقد بدأت مرحلتها الأولى فيما تنتهي الرابعة في عام 2045. تتضمن المرحلة الأولى حسب وثائق وزارة الإسكان والتخطيط العمراني تطوير مركز المدينة على مساحة تقدر حوالي 5 ملايين متر مربع والتي تشمل 6 أحياء عصرية ومتكاملة بمساحة بناء تقدر حوالي 2.2 مليون متر مربع، تتوسطها الحديقة المركزية واستصلاح الوادي لتكون قلب المدينة النابض بالحياة بمساحة 1.6 مليون متر مربع، ومرافقها المتكاملة بمعايير عالمية لتشمل أكثر من 35 ألف نسمة. وبرفقة ذلك مرافق متنوعة ومدمجة، تحتوي على 6743 وحدة سكنية تشمل 608 فيلل منفصلة و872 فيللا شبة منفصلة و1156 تاون هاوس و4107 من الشقق، و8 مصليات ومستشفى خاص ومحطة تعبئة وقود و4 مواقع لمدارس و19 أرضا مخصصة لمكاتب، وبتعدد مرافقها بين المرافق الاجتماعية والثقافية والخدمية تصبح مدينة السلطان هيثم مدينة قريبة من سكانها وزوارها تحتضنهم وتحتويهم وتلبّي احتياجاتهم وتطلعاتهم لا بل والأهم تمثلهم.
المرحلة الثانية سيتم تنفيذها خلال الفترة (2028- 2035) على مساحة 2.6 مليون متر مربع وتستوعب أكثر من 23 ألف نسمة وتضم 4200 وحدة سكنية ومساحة بناء حوالي 1.4 مليون متر مربع، وتبدأ المرحلة الثالثة بحلول عام 2033 وتستمر حتى 2040 وتقع على مساحة 2.3 مليون متر مربع وتستوعب أكثر من 21 ألف نسمة، وتحتوي على 3500 وحدة سكنية ومساحة بناء 1.3 مليون متر مربع.
والمرحلة الرابعة والأخيرة من مراحل البناء تبدأ بحلول عام 2038 وتستمر حتى 2045 على مساحة حوالي 5.5 مليون متر مربع تستوعب أكثر من 26 ألف نسمة، وتضم 4500 وحدة سكنية على مساحة بناء تقدّر بحوالي 1.9 مليون متر مربع.
وتم تقسيم هذه المراحل بدون توسع عامودي أو أبراج على أساس قناعة المخططين المعنيين بأن المدينة ينبغي ان تكون سعيدة وتمثل أهلها وتشكل إضافة نوعية بذات الوقت لمدينة مسقط القديمة التي تحتضن المدينة الجديدة.
من جانبه يؤكد خبير التخطيط الحضري الدكتور فؤاد عسيري بأن تخطيط مدينة السلطان هيثم أخذ بالاعتبار بوضوح المشكلات التي تطرأ أو تعايشها المدن القديمة في منطقة الخليج العربي حيث البنية التحتية القديمة هي الأفضل في المدن القديمة التي يهجرها أهلها وسكانها والوافدون تحت وطأة احتياجات العمل والرغبة في التواجد لأسباب اقتصادية في المدن الحديثة المقامة ضمن نطاق خدمات.
هذه المشكلة برأي عسيري خططت مدينة السلطان هيثم لتجاوزها عبر العودة لجذر وأصل المدن القديمة وإعادة تخطيطها والبقاء في المركز التراثي الخدماتي وبؤرة خدمات البنية التحتية الأصلية ضمن مقاربة حضرية وتخطيطية تعتمد على تقنية «اليوتوبيا» وهي المدن التي يعاد أحيائها وتنميتها وتطويرها في مركز الثقل العقاري والخدماتي من دون الحاجة لضواح عصرية وتجمعات سكانية معنية بالرفاهية وبنمط الخدمات الحديث.
الجمع بين النمط التراثي القديم والبناء العصري الحديث هو عنوان التخطيط في مدينة مسقط الجديدة التي تتسع لاستيعاب أكثر من 200 ألف مقيم وساكن وأكثر من نصف مليون زائر في اليوم الواحد مع إقامة مراكز تسوق وأخرى طبية وثالثة تعليمية تبقى قريبة من شبكات الطرق الرئيسية.

يوتيبيا بهيئة مدينة

ويرى العسيري أن الأفضل للمدن التي تقام حديثا في مركز المدن والبنية القديمة هو إقامة بنية لخدمات النقل حصرا حيث أن أي تطوير في وسائل النقل العام عموما يحتاج لكثافة سكانية لأن المستثمرين في قطاع النقل يحتاجون لزبائن لتعويض نفقاتهم.
وحرص العمانيون على بناء «مدينة سعيدة» بمعنى ربط السعادة الناتجة عن الرضا والبقاء في مستوى ارتباط عاطفي بالماضي والمألوف الاجتماعي حتى لا يشعر الساكن أو المقيم بالغربة العاطفية.
لكن ذلك في الصناعة العمرانية المستحدثة وفقا للوزير المعني خلفان الشعيلي أخذ بالاعتبار أيضا الاستلهام من تجربة الشباب واشراكهم في صناعة الواقع الإسكاني وتلبية تطلعاتهم، بمعنى أن التخطيط العمراني في السلطنة يأخذ بالاعتبار ثورة التكنولوجيا وبصيغة تناسب الأصول والتراث والاحتياجات الاجتماعية حيث التحدي يكمن في التوصل إلى صيغة عمرانية تأخذ بالاعتبار النمو السكاني وبذات الوقت تلبي الاحتياجات والاسترخاء والشعور بالأمن السكاني.
يظهر العمانيون عموما حالة زهو بالمستوى التخطيطي الذي يرافق بناء مشروع مدينة السلطان هيثم من حيث تلبية تطلعاتهم والبقاء أيضا في قلب العاصمة مسقط بعيدا عن «أي تقليد» أو عن الشطط في العمران الاستثماري الذي يهدف للربح فقط، وبعيدا عن تجاهل احتياجات السكن الاعتيادية وفي إطار فلسفة تستند إلى توفير فرصة الإقامة بالمدينة الجديدة لكل المواطنين وللمستثمرين أيضا وجزئيا للأجانب.
اقيمت مدينة السلطان هيثم على مسطح من الأرض يصل إلى 14 ألفا من الكيلومترات وفيها حسب الخبراء مسطحات خضراء للتنفس لا تقل عن 12 في المئة ونظام الخدمات أفقي بمعنى توفير كل المرافق التي يحتاجها الساكن والزائر فيما نظام الربط بالطرق حسب حساب البقاء قريبا من أضخم وأبرز شارعين رئيسيين ودوليين في العاصمة مسقط.
ووفرت سلسلة من الطرق الرابطة الجديدة إلى المدينة عبر طريق مسقط السريع وشارع السلطان قابوس؛ حيث تتوفر 23 نقطة وصول مختلفة لتحقيق الوصول السريع وتجنب الازدحام. كما سيجري توسعة نقطتي الوصول الرئيسيتين الحاليتين من شارع السلطان قابوس؛ لإثبات الوصول الاتجاهي الكامل من وإلى المدينة، كما ستعمل الجسور والأقسام تحت الأرض على ضمان التدفق السلس للمركبات، وإضافة رابط جديد إلى تقاطع طريق مسقط السريع باتجاه بركاء، وتحسين الوصول من خلال التقاطعات الجديدة مع طريق حلبان المطوّر مع شارع السلام، وتحسين الوصول من المعبيلة من خلال إنشاء تقاطعات جديدة.
وتشرح الوزارة المعنية بأن شبكة طرق المدينة الجديدة التي تم هيكلتها تخطيطا اختير البناء الهرمي لها والتنظيم الدقيق للشوارع حيث يتضمن «بوليفارد» خاص جدا بالمشاة فقط ووسائل النقل العام بطول نحو 3 كيلومترات ونصف مع شوارع رئيسية للمدينة بطول 32 كم، وشوارع الأحياء بطول 150 كم، أما ممرات الأحياء والتي تسمح بمرور الترام، والسكوترات الكهربائية أو الدراجات الهوائية، وغيرها من وسائل التنقل الخفيفة والذكية بطول 32 كم، وفي جانب تعزيز التنقل النشط تتوفر مسارات للمشي ولمستخدمي التنقل الخفيف (الدراجات الهوائية وغيرها) بطول 25 كم، وتتكامل مع مسارات ضيقة ومظللة ومريحة بصريًا تعمل كحلقات وصل مباشرة للحديقة، وتتكامل هذه الممرات الصغيرة بسلاسة مع وسائل النقل العام.
طبعا عرضت هذه التوثيقات حول المدينة الجديدة ضمن فعاليات مؤتمر متطور باسم «أكتوبر العمران» مع معرض «البيت والبناء» وبحضور لخبراء ومخططين وأصحاب شركات وممثلي القطاع العام.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من مدونة الكاتب بسام البدارين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading