مزاج «حراكي» بامتياز وسؤال المرحلة «الأردني»: هل تتجه البوصلة إلى «عصيان مدني»؟
لا ينبغي التفكير مطولاً بسيناريو الخطوات اللاحقة لما سيحصل على صعيد أزمة المعلمين في الأردن بعد تدويلها على نحو أو آخر، وتحولها إلى منطقة تتجاوز الأزمة الداخلية.
على صعيد إضراب المعلمين المستمر للأسبوع الرابع على التوالي، لا جديد يمكن أن يذكر بقدر انتقال المواجهة ما بين نقابة المعلمين ووزارة التربية والتعليم من السياق السياسي ولعبة الشد والجذب في الشارع إلى السياق البيروقراطي وداخل كل مدرسة أو صف. حصل شيء من هذا القبيل تماماً اعتباراً من صباح يوم الاثنين، حيث كانت المحكمة الإدارية قد حسمت أمر الإضراب ظهر الأحد، وقررت أنه غير شرعي، بصورة تمنح الحكومة رخصة التصرف على هذا الأساس. ومبكراً، أعلنت وزارة التربية والتعليم بعد ظهر الإثنين أن فرعها في مدينة إربد شمالي المملكة أعد كشوفات العمل الإضافي للمعلمين. تلك رسالة بيروقراطية وقانونية تقول بأن الحكومة وصلت إلى مستوى التلويح بفصل المعلمين المصرّين على استمرار الإضراب، لا بل استبدالهم بقوائم تعيين جديدة.
على جبهة موازية، وفي مدينتي الزرقاء والكرك على الأقل، حصلت بعض الاحتكاكات، حيث كلف الموظفون الإداريون بإدخال الطلاب إلى الصفوف وإجبارهم على استئناف العام الدراسي. وفي المقابل، في بعض المدارس تصدى معلمون مضربون لهذه المحاولة، في الوقت الذي توجهت فيه مجموعات من الأمن وقوات الدرك لأول مرة في تاريخ المملكة للحرص على حماية وزارة التربية والتعليم ومقرات مديريات التربية، وفي بعض الحالات المدارس الحكومية الكبيرة. وسط هذا النمط من المواجهة، تجمع المئات – حسب رواية التقارير الرسمية في وزارة الداخلية – من المعلمين المضربين للاحتجاج على تلويح وزارة التربية بعقوبات إدارية وتدشين عملية كشوفات التعيين على التعليم الإضافي.
على جبهة رئيس الوزراء الدكتور عمر الرزاز، ثمة قراءة تقارن ما بين كسر إرادة الحكومة وإجبارها على رفع الرواتب والخضوع لنقابة المعلمين، وهو خيار سقط سياسياً في اجتماع صاخب مساء الأحد لمجلس الوزراء، وبين الخيار المعاكس، وعنوانه مهما حاولت الحكومة تجميل العبارة كسر إرادة نقابة المعلمين وإخضاع الإضراب وتفكيكه عبر الاستثمار؛ أولاً في قرار المحكمة الإدارية لإنهاء الإضراب، وثانياً في سلسلة تشريعات الخدمة العامة التي تعاقب كل موظف يغيب عن دوامه الرسمي.
الوضع بعد قرار المحكمة أصبح أمنياً بامتياز، والمقاربة التي يتحدث عنها الرزاز تحاول ارتداء ما تيسر من ثوب النعومة عبر تكنيك يكسر الإضراب بالتدريج، ويحتمل عودة التلاميذ إلى صفوفهم بالقطعة، وبنسبة مئوية معقولة وبالتدريج. وإذا قررت نقابة المعلمين بالتوازي المواجهة وبصلابة والاستثمار في الحاضنة الاجتماعية لمطالبها، وهو الاحتمال الأرجح قياساً بإعلان النقابة استمرار الإضراب، ستدخل جميع الأطراف في مواجهة يومية ضمن سياق لعبة بيروقراطية عنوانها سلطة تستخدم عضلاتها لإجبار المعلمين على العودة إلى الصفوف الدراسية ونقابة وصلت إلى نقطة اللاعودة ستعمل بالاتجاه المعاكس تماماً.
يعلق هنا تحديداً الأهالي والتلاميذ وتخدش كرامة العام الدراسي بأكمله، ولا أحد يستطيع اليوم -كما يؤكد القطب البرلماني خميس عطية لـ»القدس العربي»- مواجهة هذه الأزمة المتدحرجة عبر الاسترسال في منطقة السؤال عن من فعل ماذا ولماذا؟ بكل حال، حاول عطية جهده مع زملاء له عبر مبادرة أفلتت بعدما وضعت المحكمة الإدارية ممراً إجبارياً للجميع في محاولة لحسم التجاذب. لكن التجاذب لن يحسم بهذه الطريقة، وقد سمع الرئيس الرزاز نفسه في الاجتماع الصاخب مساء الأحد رأيين من طاقمه.
الرأي الأول يقول أن الجميع خاسر من لعبة إخضاع المعلم الأردني، وبأن الحكومة ستكون أول من يخسر، وبأن الرزاز نفسه سهر بحرص وبتأثير مراكز قوى في الدولة ودون مبرر على جرعة حماسة مفرطة نقلت الأزمة من سياق مطلبي معيشي مالي إلى سياق قضائي وقانوني وأمني صلب ومستحكم.
أما الرأي الثاني، فتبناه جناح من أربعة وزراء قدروا بأن الخسارة حاصلة حاصلة، وبأن إنهاء الإضراب دخل في سياق الاستحقاق حفاظاً على هيبة الدولة ووقف أضواء الإعلام والتدوين وبأسرع وقت ممكن.
مال الرزاز إلى الجناح الثاني. لكن الأزمة متواصلة، وانتقلت من سياقها السياسي في الشارع إلى ساحات المدارس نفسها وغرف الصفوف. وتقول الحكومة إن الإجراءات بدأت ضد الإضراب وستكمل وبدون تراجع، وبأن ورقة الاستجابة للمطلب المالي سقطت تماماً حتى إن الرزاز رفض رأياً من وزير مخضرم في الحكومة اقترح عليه زيادة المبلغ المقطوع المقترح قليلاً ما دامت الحكومة قد تنازلت أصلاً.
بدا لافتاً للنظر هنا أن وزيراً محنكاً من وزن وزير الداخلية سلامة حماد حاول تقديم نصيحة لها علاقة بالإجراء الأسلم في التوقيت الأفضل، رغم ابتعاده عن الأضواء ورغم اتهامه من قبل شارع المعلمين.
في كل حال، وفي المحصلة، إن انتقال المواجهة على هذا النحو الدراماتيكي إلى داخل المدارس وتوسع الحراسات الأمنية ثم تجمع المعلمين المضربين في نحو 11 موقعاً على الأقل، أمس الاثنين، تطورات لافتة جداً لا توحي فقط بمزيد من احتمالات الفوضى الإدارية والسياسية وفي بعض الأحيان الأمنية، ولكنها توحي أيضاً، خصوصاً بعدما عادت ظاهرة تسريب الوثائق وباتجاهات مقلقة وغامضة، بأن الوصفة مفتوحة على الاحتمال الأصعب جداً إذا ما استرسلت نقابة المعلمين وقائدها صعب المراس الذي تحول إلى رمز كبير الآن ناصر النواصرة، في لعبة الأيقونة إلى ما يوحي بأن العصيان المدني قد يكون في الطريق.
هذا السيناريو المؤسف، بكل حال، يقفز فجأة حتى داخل أروقة الحكومة ضمن الاحتمالات، لأن أحداً في السلطة لم يطرح جواباً على السؤال العملي التالي: قد ينتهي الإضراب بأي نسبة.. لكن كيف ستجبر الحكومة أكثر من مئة ألف معلم على تنفيذ الواجب الإداري حتى بعد الغطاء القضائي؟