مناخات «حادثة الرابية» في الأردن: تشكيك وتحريض وخلفيات و«حلقة سوداء»
مؤشرات برزت مجدداً إثر حادثة إطلاق النار
عمان ـ «القدس العربي»: ثمة «مسكوت عنه» برزت مؤشراته مجدداً إثر حادثة إطلاق النار في حي الرابية غربي العاصمة أمس الأول، ويحتاج للنقاش ما دام الجميع في المسرح السياسي والشعبي والرسمي الأردني يتحدث عن إعادة بناء وتصليب الجبهة الداخلية.
ما رصد في السياق من قبل بعض السياسيين والمسؤولين وعلى منصات التواصل الاجتماعي، يحتاج إلى تفحص؛ لأن المسألة لا تتعلق بحادثة إطلاق نار على رجال شرطة أثناء تأدية واجبهم، ولا أحد يقرها أو يتفهمها أو حتى يحترمها بين الأردنيين، بقدر ما يتعلق الآن بكيفية التفاعل بيروقراطياً وإعلامياً وسياسياً.
خلفيات ودوافع
ولاحقاً اجتماعياً، قبل أن توضع بعض نقاط تلك الحادثة على بعض حروف الواقع، استعجل أعضاء في مجلس الأعيان – مثلاً ربط حادثة فردية لم يكشف النقاب بعد عن خلفياتها ودوافعها ولا حتى ظروفها – بما سماه عضو المجلس النشط عمر العياصرة سياسات التحريض والتشكيك بالدولة المستمرة من العام الماضي.
كما ربط عضو آخر في مجلس الأعيان بين حادثة تورط فيها مطلوب أمنياً وموصوف بقيود متعاطي مخدرات، وبين جهات اقترح أنها تنظيمات تستطيع استغلال من يتعاطى المخدرات.
في الأثناء، سارع بعض الخبراء من المتقاعدين الأمنيين للتحدث عن جهات خارجية، لكن لا أحد من هؤلاء يحاول مساعدة الدولة حتى الآن في تشخيص وتحديد تلك الجهات التي تتربص بأمن واستقرار الأردن، أو تريد بالبلاد سوءاً في مقابل سؤال لا تطرحه حتى المؤسسات الرسمية: من هي الجهات في الخارج التي لها مصلحة بتأزيم داخلي أردني؟ السؤال الأخير لا يطرح لأن الإجابة مقلقة وتنطوي على تحديات، فحكومة اليمين الإسرائيلي وبعض توابعها في الأراضي المحتلة المرشح الأوفر حظاً للجلوس في موقع المتربص الأساسي بالأردن حكماً وشعباً. لكن الإقرار بتلك الحقيقة يعني الاسترسال في سيناريوهات الاعتراف بسلسلة من الأخطاء المتراكمة والفادحة منذ عام 1994.
مؤشرات برزت مجدداً إثر حادثة إطلاق النار
لذلك، فالأسهل بالنسبة لبعض رموز العمل العام الذي يتسرعون في إظهار الولاء والانتماء هو التوصل الفوري بعد حادثة إطلاق نار مدانة بالقرب من مكاتب سفارة العدو في عمان إلى استنتاجات متسرعة ومبكرة حتى قبل أن تكشف السلطات الأمنية رسمياً عما جرى وعن هوية الشاب الذي اشتبك مع رجال الأمن وجرح بعضهم قبل مقتله.
لم يحدد العياصرة مثلاً من هي تلك الجهات التحريضية التي ساهمت في برمجة عقل وذهن شاب أردني ارتكب جريمة في كل الأحوال وأطلق الرصاص في غير اتجاهه وموصوف أمنياً بـ «متعاطي مخدرات». لكن الإيحاء واضح ضمن مسلسل سياسي تركي طويل ومضجر يصر على اتهام وشيطنة الحركة الإسلامية، كما أبلغ «القدس العربي» عدة مرات النائب البارز صالح العرموطي وهو يستغرب من الصمت الرسمي عن هذا التحريض ضد المجتمع والناس والإسلاميين.
ولم يحدد العياصرة من هي الجهات التي تمارس التشكيك بالدولة ومواقفها، فيما يلاحظ السياسي مروان الفاعوري بأن بعض المحسوبين على البوصلة الرسمية هم فقط الذين يتحدثون عن تشكيك غير موجود، وكأن المطلوب تبرير امتيازاتهم ووظائفهم وأدوارهم في بث الفرقة بين الناس والدولة على أساس فرضيات التشكيك.
يلمح الفاعوري وغيره إلى حلقة سوداء لا بد من ملاحقتها والتوقف عندها كشفتها نقاشات وتحريضات ما بعد حادثة الرابية. ولا أحد من الذين قرعوا طبولاً وهم يبالغون في التحدث عن جهات خارجية وتحريضية قدم ولو دليلاً واحداً على منطق يمكن أن يربط بين سلوك من وصفه بيان رسمي بـ «صاحب أسبقيات ومتعاطي مخدرات» وبين «أي جهة منظمة خارج البلاد أو داخلها» يمكنها أن توجه أو تؤثر في هذا الصنف من الشباب.
تسكت الحكومة وأحياناً الأجهزة، بشكل غريب لا بل مريب بيروقراطياً عن تلك الأصوات التي لا تقرأ الحدث الأمني في سياقه وتبالغ في إظهار الدولة وكأنها تتأثر بتشكيك، بينما هي الأقوى والأكثر تماسكاً في المنطقة.
وتسكت مرة أخرى عن تلك الأصوات الناشزة التي تدعي وتزعم تمثيل الدولة وهي تبتكر وتخترع بعض السرديات غير المقنعة، مثل وجود جهات خارجية أو داخلية تستغل من يتعاطون المخدرات، ومثل الاسترسال في احتفال التحذير من مشككين وتحريضيين، مع أن هؤلاء في الموقف المرجعي والرسمي ليسوا موجودين ولا يلاحظهم الناس.
لسبب غامض، امتنعت السلطات عن الكشف عن هوية مرتكب إطلاق النار على بوابات السفارة الإسرائيلية لعدة ساعات، فاندفعت موجة أكثر غرابة من التعليقات عبر منصات التواصل الاجتماعي، تبحث في الأصل والمنبت لمخالف القانون. ثم توسع بيكار الاتهامات لمكونات اجتماعية كاملة قبل أن يتبين أن المسألة تتعلق بشاب تقول السلطات إن لديه قيوداً أمنية، كما تقول بالنص إنه كان يحمل زجاجات حارقة، وإنه ابن عشيرة المعايطة، إحدى عشائر الولاء المهمة والأساسية في مدينة الكرك جنوبي البلاد.
جرائم إسرائيل
حتى في الجريمة، ثمة من يدقق في الأصل والجريمة، مع أن جرائم إسرائيل اخترقت كل الهويات الفرعية في الشعب الأردني. لكن من يصنفون الأردنيين أو يحاولون تجريم مكونات بأكملها ويسترسلون في الأوقات الحرجة بالتدقيق في القيود المدنية على هذا النحو المختل، لا تنتقدهم السلطات ولا يلاحقهم حتى قانون الجرائم الإلكترونية، لا بل يبثون بعض السموم، كما يلاحظ الراصد والناشط محمد فتحي، على شبكة التواصل بطريقة منهجية وحتى قبل صدور الروايات الرسمية. أجهزة التوجيه في المؤسسة الرسمية تسكت عن هؤلاء. والأمر أصبح يحتاج إلى مراجعة ومعالجة؛ لأن من يرتكبون مخالفات خطيرة وحساسة ويتقمصون دور الحريص الوطني هنا حصراً يتحدثون باسم الدولة والولاء والانتماء، لا بل بعضهم في مواقع ووظائف رسمية ولا أحد يضبط إيقاعهم على بوصلة الحرص الوطني العام.
بالتوازي، لا تريد الأطراف المعنية الغوص بما هو أعمق وأبعد في الجريمة التي ارتكبها شاب أطلق الرصاص على رجال الأمن أمام سفارة العدو قبل مقتله باشتباك رسمي استنكره الأردنيون في بيانات رسمية في مخيم البقعة قبل مضارب عشائر المعايطة والكرك وبقية المحافظات. الأبعد والأعمق هنا واضح حتى وإن هربت من نقاشه سلطات الحكومة، فالأردن بسبب إسرائيل وجرائمها ومجازرها تماماً على حد السيف، وليس بسبب متعاطي المخدرات ولا المحرضين الغامضين الذين يحاول العياصرة وبعض رفاقه اختراع شيطانهم.