القدس والعودة: حوار مثير مع «كيسنجر»
أعجبني حوار منقول بين هنري كيسنجر وأحد نجوم إتفاقية أوسلو والسلام رواه امامي مؤخرا الطرف الفلسطيني المباشر بحضور بعض الشخصيات.
يسأل العجوز الخطير كيسنجر: هل تعتقد أن ثمة فلسطينيا واحدا الآن او مستقبلا يمكنه أن يوقع «ورقة» لتسليم القدس؟.
أجاب صاحبنا بـ«النفي» فطرح كيسنجر سؤاله الثاني: هل يوجد فلسطيني واحد بالكرة الأرضية يمكنه أن يوقع ورقة تتضمن التنازل عن حق العودة؟.
نفى صاحبنا مجددا فأعاد كيسنجر سؤاله الثالث بالصيغة التالية: وهل تعتقد بوجود يهودي واحد في إسرائيل يمكنه أن يوافق على تسليم القدس للعرب؟.
ثم السؤال الرابع: وهل تعتقد أن أي يهودي إسرائيلي يمكنه أن يوقع لكم في أي لحظة على ورقة تتضمن اقرار حق عودة اللاجئين؟.
بالحالتين أجاب القيادي الفلسطيني أيضا بالنفي.
هنا برزت خلاصة كيسنجر:عليه يا ولدي إسمعني جيدا.. هاتان قضيتان لا يمكن معالجتهما بأي عملية سلام أو تفاوض، ثم أضاف: وحده الزمن كفيل بالمعالجة المطلوبة.
خلافا لمحاولات تبرع بعض الدول العربية وغيرها بفلسطين كاملة وشعبها وتاريخ قضيتها مقابل أثمان بخسة لها علاقة دوما بتكريس وتثبيت ثنائية الفساد والاستبداد يمكن ببساطة القول إن الموقف الأردني «الممانع» في ملف القدس تحديدا يبقى المتصدر والأكثر وضوحا من غيره لاعتبارات لم تعد خافية على أي مراقب.
يلاحظ كل أردني بسيط أن دولا عربية كبيرة مثل السعودية ومصر لم تتدخل ولم تقل كلمة واحدة من أي نوع في رفض وعد ترامب الشهير.
ويشتكي دبلوماسي عريق أمامي من أن المملكة تركت والسلطة الفلسطينية وحدهما في الأقنية الدولية عندما تعلق الأمر بنقل السفارة الأمريكية إلى أشرف مدن العالم وأطهرها.
بكل حال الخشب والحجر والشجر في حوض القدس يقول بعروبة هذه المدينة ولا يحتاج الأمر للاسترسال في التوقع والتاريخ فالجميع يعرف أن الاحتلال الإسرائيلي مهما تبدلت الظروف يبقى بلا مستقبل ولا يمكن إنجازه.
قد يكون مثل هذا القول في سوق نخاسة الإعلام اليوم مجرد شعر أو أغنية.
عندما يتعلق الأمر بالموقف الأردني الموضوعي يمكن ملاحظة أن مسألة «الخط الاحمر» في ملف القدس تؤسس لاستراتيجية أردنية ترمي الدولة بثقلها وراءها فعمان تناضل وبكل ما تستطيع لكي تعزل القدس ومقدساتها عن مسار قطار السلام الاقتصادي القادم.
لكن الموضوعية نفسها اليوم تقتضي تأمل الخط الأردني الأحمر باعتباره «صرخة سياسية» للأثرياء والأقوياء العرب وللضمائر البشرية حتى لا يقر العالم والغربي تحديدا بان الجميع بدون إستثناء دخل في إطار «التبصيم».
الأردن المتروك عربيا والذي يتحرش بمصالحه كثيرون في الإقليم والمنطقة يستطيع الثبات عند موقفه لكنه لا يستطيع في ظل الوضع الحالي على الأقل خوض معركة القدس والدولة الفلسطينية منفردا
..يفترض ان هذا الحوار حصل في هوامش زمنية مرتبطة بأوسلو بمعنى أن العمق الأمريكي واليهودي في أمريكا يدرك مسبقا أن مسألة ترحيل الملفات الأهم للوضع النهائي بين الحين والآخر مجرد لعبة سياسية سيوقفها الزمن بمعنى تبدل وتغير ميزان القوة العسكرية والعلمية.
بكل حال استحضرت هذا الحوار المهم وهو حديث جدا بالمناسبة وبحضور شخصيات محترمة وأنا أحاول قراءة إصرار بلادي على التحدث عن القدس باعتبارها «خطا أحمر» في وقت يعلم فيه الجميع أن الخط الأحمر فرضه الرئيس ترامب وتتلاعب به إسرائيل.
سياسي كبير من وزن طاهر المصري يصر على القول أن «القدس إنتهت» وأن صفقة القرن تسعى لتصفية القضية الفلسطينية.
يختلف معه صناع القرار في الدولة الأردنية في الوقت الذي أصبح فيه مجرد ترديد وإظهار موقف محاولة وطنية أردنية لـ«التباين» مع مشاريع التفريط بالقضية الفلسطينية.
موقف القيادة الأردنية بالخصوص محترم ويقدر وسيذكره التاريخ.
لكن الأردن الذي يسترسل الشقيق قبل الصديق في إضعافه ومحاصرته والملغوم بالتحديات والمشكلات الداخلية «لا يستشيره» أصحاب اللعبة الكبار في القضايا والملفات الحاسمة.
الأردن المتروك عربيا والذي يتحرش بمصالحه كثيرون في الإقليم والمنطقة يستطيع الثبات عند موقفه لكنه لا يستطيع في ظل الوضع الحالي على الأقل خوض معركة القدس والدولة الفلسطينية منفردا في الوقت الذي يلتهم فيه الانقسام الفلسطيني مصداقية خطاب التحرر الوطني عند أكبر فصيلين في الأرض المحتلة.
خط القدس الأحمر بمعنى آخر توثيق لموقف تاريخي وصرخة استغاثة للعالمين العربي والإسلامي وينبغي أن يقرأ بعيدا عن المبالغة في تضخيم القدرات ودون التفريط بالاتجاهات.
الأردني اليوم لديه مجس خبير ويقرأ القادم بدقة وخبرة عميقة.
ويعرف أن الخطوط برمتها قد لا تحتفظ بأي من ألوانها قريبا، الأمر الذي يدفعنا للإعتقاد أن التصعيد لفظيا وإعلاميا وسياسيا على الأقل محاولة للدفاع عن الذات ومصالح البقاء وسط الموج المتلاطم ومحاولة لتحسين شروط التموقع الجيوسياسي. ينبغي أن لا يتم تحميل بلد كالأردن أكبر مما يستطيع.
وعلى القراءات التي تبالغ في التشنج الوطني أن تدرك أن المؤسسة تدير لعبة سياسية معقدة فيها من المجازفة والرهان الكثير في الوقت الذي تبين فيه أن «الخذلان» العربي والإسلامي أكثر.
عندما قرر ترامب نقل سفارته سأل أحد وزراء الأردن صديقه الرجل الثاني في السفارة الأمريكية عن مجازفة بلاده بقرار من هذا النوع وعن سيناريو تثوير الشارع.
كان رد الدبلوماسي الأمريكي مغرقا في الوجع عندما قال: اطمئن.. لن يحصل شيء.. لن يزيد عدد الذين سيخرجون للشارع احتجاجا على القرار عن مليون متظاهر في كل دول العالم بما في ذلك العالمان العربي والإسلامي.
ثم أضاف: حتى الإسلاميون لن يعتبروا الأمر «أولوية» مطلقة.