خفايا «كمائن كوشنر» في ملف القدس: واشنطن تنصح الأردن بـ «طي الصفحة» ولندن تقترح التخلص من «الصداع»
ما الذي تعنيه بصورة محددة تلك الرسالة التي التقطتها مجسات عمان من جاريد كوشنر الأمريكي وطاقمه في واشنطن بعنوان «زيادة الفعالية لأن المنطقة بصدد تحولات كبيرة»؟
البوصلة أردنياً على الأقل في عمق الصف الرسمي واضحة الملامح هنا، فما يوحي الأمريكيون به يتعلق حصرياً بملف القضية الفلسطينية وفي الجزء المتعلق فيها من مدينة القدس بصورة حصرية. عملياً، لا تفضل المؤسسة الأردنية الغرق في السيناريوهات وتوقع المطبات والمفاجآت. لكن الأمريكي مباشرة يطلب على مستوى إدارة الرئيس ترامب التحرك والتحريك محلياً استعداداً لخطة سلام يبدو أنها تحاول- عندما يتعلق الأمر بالخط الأحمر الأردني الأبرز علناً وسراً-إعادة إنتاج مفهوم الوصاية إلى مربع «الرعاية» للأماكن المقدسة والأوقاف الإسلامية والمسيحية في الحرم المقدسي.
الأوقاف الأردنية وحيدة تماماً في المواجهة
يلاحظ مفكر سياسي خبير في الصراع والإسرائيليات من وزن عدنان أبو عودة، بأن ما يسمى إعلامياً بصفقة القرن يفرض بالواقع اليوم بدون تسمية وإعلان. عند ذلك، الملف الوحيد المتبقي في ظل لعبة الألفاظ والتعبيرات الإسرائيلية والأمريكية قد يكون قد حسم وعزل ملف القدس.
وهو يطرح مقاربة فكرية عميقة تحاول قراءة ما يجري على أساس أن قصة «من النيل إلى الفرات» انتهت بكل الأدبيات، والسيطرة بالقوة على 60 مليون إنسان في الجوار لم تعد في نطاق قدرة المشروع الإسرائيلي، مما رفع من قيمة سيناريو سايكولوجيا السيطرة الاقتصادية خصوصاً.
وإن قطاع غزة غير وارد بكل الأدبيات الصهيونية، وفي ظل نظام الميثولوجيا الآيديولوجي فالإسرائيلي يقول بكل اللغات إنه لا يريد القطاع ويمكن للفلسطينيين أن يقيموا دولتهم فيه. قد يكون المطروح في المحصلة برأي أبو عودة هو السلام الاقتصادي الذي يبقي إسرائيل في مستوى التحكم والنفاذ. لكن عندما يتعلق الأمر بملف القدس والمسجد الأقصى، وبعيداً عن التفكير بصوت مرتفع، ثمة لعبة حساسة وضغط شديد على العصب الحيوي الأردني.
يفهم المراقب منسوب ومستوى هذا الضغط عندما يقترح السفير البريطاني في عمان العاصمة، ادوارد اوكدين، سلسلة حوارات مع رموز مخضرمة في الخارطة الأردنية بعيداً عن الإعلام والكاميرات وتحت عنوان «التباحث فيما ستؤول إليه الأمور في ملف القدس».
يوحي سفير لندن هنا بأنه يرغب في التشاور بدون ضجيج.
لكن الهدف الباطني لهذا النمط الدبلوماسي من الحركة التشاورية قد يكون إبلاغ النخب الأردنية بأن على المملكة الاستعداد لصفحة جديدة ما بعد حسم ملف القدس. بمعنى آخر، ثمة رسالتان بالتزامن بينهما مساحة مشتركة ومثيرة .. الأولى تصدر عن واشنطن وتطالب بالفعالية المحلية تمهيداً لتحولات مهمة مقبلة.
والثانية دبلوماسية بريطانية ناعمة ترتدي ثوب النصح والإرشاد وتحاول ضمنياً تهيئة مناخ النخب الأردنية لمرحلة جديدة قد تخلو من ورقة القدس أو بالحد الأدنى قد تمهد لترتيب دولي وأممي على صعيد إدارة الحرم المقدسي.
ومن باب حماية المصالح الأهم للدولة الأردنية بعدما دفعت بريطانيا مبلغاً مالياً كبيراً لحماية الاقتصاد الأردني، لا يدفع بالعادة برأي خبير كبير من وزن الدكتور محمد الحلايقة بدون أجندة سياسية تتطلب الحذر والإدارة الحصيفة للموقف.
لم يعد سراً إطلاقاً في عمان أن أوساطاً في إعلام الدولة العبرية بدأت تلكز- بالتزامن- الأردنيين وهي تسرب معلومات عن مشروع يقترح تخفيف صداع القدس عن الرأس الأردني، بالإشارة إلى أدوار إسلامية لها علاقة بالمغرب والسعودية أو غيرهما.
طبعاً، مثل هذا الاتجاه يقترحه ويسانده طبقة كاملة من السياسيين والاستراتيجيين الأردنيين الذين يحاولون تجميل صورة مفترضة مقبلة عبر تعداد مزايا العودة لرعاية أوقاف القدس بدلاً من الوصاية عليها، وعبر الدعوة الهادئة خلف ستارة القرار إلى تخفيف العبء عن الذات.
حتى اللحظة لا يوجد ما يوحي بأن القرار الأردني يتخيل نفسه بعيداً عن الوصاية عن القدس مع أن عمان تلقت تحذيرات من أصدقاء في أوروبا يحاولون لفت النظر إلى ضرورة الانتباه للكمائن التي تطرحها القيادة التركية تحديداً وهي تصف الأردن بأنه حامي المقدسات.
على الأرض وفي الميدان، وبالرغم من كل ما يدور في الكواليس، تواصل وزارة الأوقاف الأردنية الاشتباك مع التفاصيل والإجراءات داخل الحرم المقدسي، ويعيد وزير الأوقاف العميق والنشط الدكتور عبد الناصر أبو البصل التزام بلاده بمضمون ومنطوق الوصاية وحمل الأمانة إلى أن تعود لأصحاب الحق من الشعب الفلسطيني.
الوزير أبو البصل هنا قد يكون الوحيد من بين وزراء العالمين العربي والإسلامي الذي يعزف منفرداً على وتر عروبة القدس ووصاية بلاده عليها، ويصدر تصريحاً تلو البيان بالخصوص، ويعيد تشكيل مجلس أوقاف القدس، ويعالج سياسياً أزمة باب الرحمة بعد أزمة الكاميرات. وملاحظ بوضوح في هذه المساحة تحديداً بأن أبو البصل على مستوى الأوقاف في الدول العربية والإسلامية يعزف منفرداً. وقبل ذلك، لاحظت كل مجسات الاستشعار السياسي والدبلوماسي الأردنية بأن دولاً مثل السعودية ومصر وحتى المغرب، تركت الأردنيين وحدهم في المعركة التي خاضوها بعد الوقائع التي فرضها قرار الرئيس دونالد ترامب بنقل السفارة في مشهد يوحي بأن الأردن قد يبقى وحيداً أيضاً في أسابيع أو أيام الحسم الخطرة المقبلة.