عجائب «أردنية»… حقوق التهريب والغش «مكتسبة»
الورطة الاستراتيجية هنا تكمن في أن الدولة توافق بسبب قصور في جهازها الحكومي على أن يعتاش بعض المواطنين فيها على تجارة صغيرة غير شرعية لها علاقة بدولة أخرى
يتظاهر مواطنون في مدينة الرمثا الأردنية دفاعا عن ما يمكن وصفه بـ«حق مكتسب» له علاقة هذه المرة بعبور بضائع ومنتجات من الحدود السورية بدون جمارك.
تلك طبعا وصفة أطلق عليها البعض «التهريب»…بمعنى آخر ثمة من يعتقد من أصحاب القرار والسلطة والنخب في البلاد بأن شريحة من المواطنين تنتفض وتحرق الإطارات وتشاغب دفاعا عن حصتها من «التهريب».
لا يوجد طبعا منطق مختل أكثر من ذلك.
قبل ذلك بسنوات تظاهر أهالي ومواطنون دفاعا عن حق أولادهم بـ«الغش» بالامتحانات الثانوية لأن «الاسئلة صعبة» ولأن مدارس الحكومة في تلك المنطقة لا يوجد فيها مدرسون على كفاءة.
الرجل الذي اخترع اصلا فكرة «حقوق مكتسبة» موجود الآن على رأس سلطة الحكومة ويتولى وظيفة نائب رئيس الوزراء.
طبعا الفاضل الدكتور رجائي المعشر كان يتحدث طوال الوقت عن الحقوق المكتسبة التي لا يمكن المساس بها للمواطنين عندما يتعلق الأمر بالإصلاح السياسي ونسب التمثيل البرلماني.
أكيد لم يخطر في ذهن صاحبنا يوما بأن مقولة الحق المكتسب ستنسحب على عناصر مكملة بائسة في المشهد مثل الحق في الغش بالامتحانات نظرا لتقصير وزارة التربية والتعليم والحق في تمييز شريحة دون غيرها بالسماح لها بالتهريب قليلا لأن جهاز الجمارك لم يحالفه الحظ باستثناء تلك الشريحة.
منطق في غاية الاعوجاج يحتاج فعلا لنقاش وحوار وطني.
لا جدال في أن إهمال الحكومة لواجباتها في أي مجال أو مكان أو قطاع ينتهي بأن تترك للمواطن مهمة تدبير شؤونه.
ولا جدال أن طالب الثانوية العامة في اي قرية بعيدة يملك حقا يوازي حقوق طلاب عمان العاصمة في توفير مدرسين على كفاءة عالية.
وايضا لا جدال أن الحكومة لا تستطيع ترك أهالي مدينة الرمثا بلا معيل او تنمية أو مشاريع أو مساعدة أو فرص عمل بحيث أصبح رزق الناس يعتمد تماما على حركة السائقين والبحارة بين الرمثا ودمشق ثم تأتي الحكومة فجأة وتقرر»..رغيف كامل لا تقسم ومقسوم لا تأكل».
يحاجج مسؤولون في الحكومة بأن احتجاجات الرمثا لا تتعلق بالمدينة ولا بأهلها بقدر ما تتعلق بشريحة البحارة التي تعتمد في تحصيل ميزات مالية عبر تهريب البضائع.
ويحاجج الأهالي بأن اقتصاد مدينتهم برمته قائم على التجارة مع الحدود السورية مثلهم مثل أي مدينة حدودية في العالم وبأن السلطة تتعامل منذ ثماني سنوات هي سنوات الثورة السورية مع مصالح المدينة وأولادها بسلبية مطلقة.
يقول الأهالي إن المدينة تجوع لأن مشاريع التنمية والتحفيز الاقتصادي لم تصلها.
المعنى أن الحكومة دفعت المواطنين هنا دفعا بإتجاه الاعتماد على الحدود مع سوريا ولم توفر لهم بديلا للرزق…تلك طبعا ليست مشكلة الأهالي ولا يمكنها أن تكون مشكلة من وجد في تمرير عبوة سجائر أو تنكة زيت وصندوق طماطم وسيلة لتدفئة أولاده في الشتاء ودفع كلفة المدرسة والخبز.
هي حصريا مسؤولية العقل الغائب في الدولة وحجب الاستراتيجيات ونظام العمل الإداري بالقطعة والارتجال والعشوائية وبدون خطط تنموية حقيقية فعالة.
لا يلام أهالي الرمثا على إحتجاجهم ما دام سلميا على شمولهم بقرارات تقطع الأرزاق.
ولا تلام الحكومة لأنها لا تستطيع «تمييز» شريحة مواطنين على الحدود خلافا لغيرهم بالتغاضي عن عملية تهريب جمركية كما حصل في نهاية المطاف.
الاعتداء على الدرك وتعطيل الطريق العام وتهديد الدولة أساليب منحرفة لا تنتمي لأخلاق الأردنيين ولا يمكن قبولها لكن الأزمة الاقتصادية تتفاعل وقاسية وتضرب كل مؤشرات العقل عند الجائع والمحتاج.
ومن الواضح أن الحكومة لو خططت جيدا لتمكنت من توفير بدائل تنموية في مدينة الرمثا تجعلها في موقف أقوى بكثير أمام مواطنيها بدلا من تركهم لسنوات طويلة بلا مشاريع ودفعهم لأحضان تجار الشام ثم العودة فجأة بقرار جمركي يمس فعلا بلقمة الخبز التي تعتمد كليا على العبور من حدود سوريا.
الورطة الاستراتيجية هنا تكمن في أن الدولة توافق بسبب قصور في جهازها الحكومي على ان يعتاش بعض المواطنين فيها على تجارة صغيرة غير شرعية لها علاقة بدولة أخرى.
والأكثر تأزيما أن المواطن في حال غياب شمول الحنان الحكومي له يبدأ تدريجيا بالنظر لأي مزايا ناتجة عن غياب القانون بإعتبارها من حقوقه المكتسبة.
ذلك مأزق أخلاقي وقانوني ووطني ينبغي عدم السكوت عنه خصوصا ونحن مقتنعون تماما بأن مشكلة التهريب في الأردن أعمق وأكبر بكثير من مجرد علبة سجائر هنا وهناك تعبر مع سائق أو مواطن يعتاش من فارق دولارين بسعرها.
ثمة مهربون كبار أكثر نفوذا..صحيح..أضخم عملية تهريب جمركية برزت من العقبة وليس الرمثا أيضا صحيح والأصح أن الحكومة تتخبط بقراراتها فيفلت «الحمار» أحيانا وتحظى البردعة بالهراوة والتخوين والتشكيك.
لكن وضع استثناءات لها علاقة بمزايا التهريب ايضا مخالفة للدستور يغيب عنها الانصاف.
وحل مشكلة الرمثا غير ممكن بالتغاضي عن خروقات القانون وبتفهم متطلبات «التهريب» كما أن حل مشكلة المدارس الحكومية ليس عبر الخضوع لمطالبة أهالي التلاميذ بتمكينهم من الغش كما فعل وزير سابق.
الحلول تحتاج لجراحات أعمق بكثير.