اراء و مقالات

الأردن: «تنميط» جديد في شكل «الإرادة السياسية» أعقب تلبية «احتياجات» الدولة العميقة

لماذا تحدث مدير المخابرات العامة؟

عمان- «القدس العربي»: طبيعي القول بأن المبادرة المثيرة والمهمة التي تقدم بها مدير المخابرات العامة الأردني الجنرال أحمد حسني، تؤسس هذه المرة لحراك من نوع مختلف لا يقف عند حدود التحدث عن المشكلات واستعراض التحديات التي أصبح يعرفها الجميع، بقدر ما يحاول الاتجاه نحو فتح صفحة جديدة والمضي قدماً إلى الأمام، وفقاً للتعبير الذي استخدمه أمام «القدس العربي» عدة مرات، وزير التنمية السياسية وشؤون البرلمان المهندس موسى المعايطة.

لماذا تحدث مدير المخابرات العامة؟

اللواء حسني فاجأ جميع الأوساط أمس الأول بمبادرة من طراز خاص، حيث التقى رؤساء تحرير الصحافة المحلية وبعض الكتاب لشرح وجهة نظر المنظومة الأمنية أو الهيكل الأمني بمخرجات لجنة تحديث المنظومة السياسية في البلاد، مع التطرق إلى بعض الملفات الأخرى والعبور رداً على بعض التساؤلات.

لغة صريحة

بصرف النظر عن العبارات التي استخدمها اللواء حسني في شرح وجهة نظر المؤسسة الأمنية للدولة فى التوصيات والمخرجات، يمكن القول إن فكرة اللقاء بحد ذاتها تعكس حتى بتقدير التيار الإسلامي نمواً في الثقافة المعاكسة وسط كبار المسؤولين لإنكار المشكلات، لأن الجنرال -وحسب نصوص نشرت لمن حضروا اللقاء- تحدث عن أزمة مصداقية الخطاب الرسمي، وعن الحاجة لمخاطبة قطاع كبير من الشباب الأردني الذي لا يصدق رواية رسمية للأحداث، وعن وجود مشكلات وحصول أخطاء في الماضي.
كانت تلك لغة صريحة، وفيها جرأة بالتشخيص للغاية، لا بل تنطلق من إحساس عام بالمسؤولية والرغبة في إظهار الاستجابة الاستراتيجية العميقة لمقتضيات ومتطلبات خطة تحديث المنظومة السياسية التي أمر بها الملك وشكل من أجلها لجنة عريضة تمثل أطيافاً واسعة من مكونات المجتمع الأردني.
ما هو أبعد وأعمق قليلاً في تنظيم لقاء مدير المخابرات ببعض الصحافيين وإبلاغ الرأي العام عبرهم بموقف المؤسسة الأمنية العميقة من مخرجات ومنتجات اللجنة على أساس إيجابي يشتبك مع التفاصيل، هو أنها قد تكون المرة الأولى التي يتسابق فيها كبار المسؤولين أيضاً في المقابل لإظهار وجود فارق هذه المرة عندما يتعلق الأمر بالامتثال لتوجيهات القصر الملكي في الإصلاح والتغيير، لا بل في تحديث المنظومة السياسية.

إشارات ورسالة

النقطة الفارقة هنا هي أن الجنرال حسني يريد أن يقول ضمنياً، بل قال تلميحاً وبوضوح، بأن الإرادة السياسية اليوم للتحديث مجمع عليها وتتوافق عليها مؤسسات الدولة، وبالتالي تلك إشارة تحمل الكثير من المعاني الإيجابية. وصفت مخرجات تحديث المنظومة هنا بأنها «متدرجة ومنطلقة من تخطيط إستراتيجي وقابلة للقياس»، وهو من الأوصاف الدقيقة جداً التي تظهر كيف نظرت المؤسسة الأمنية لمخرجات اللجنة الملكية، بل تعكس حصول «الدولة العميقة» ولو خلف الستارة على «ضمانات» تلبي احتياجاتها قبل إقرار «تحولات المنظومة»، وهو ما سبق أن سلطت عليه الضوء «القدس العربي» مراراً.
يمكن في الأثناء تتبع تلك الإشارات التي توحي بأن قواعد اللعبة قد تكون اختلفت وبأن اللجنة الملكية العريضة لتحديث المنظومة السياسية ليست مجرد تجربة كسابقاتها من اللجان، ووثيقتها لن تكون مجرد وثيقة تنضم إلى الرفوف كما كان يحصل في الماضي، وهو ما تأمّل به، ضمناً وعلناً، وزير البلاط الأسبق الدكتور مروان المعشر.
وبالتالي، ثمة تنميط نخبوي جديد من أهم رموز الدولة الأردنية، التي تتميز بالمصداقية والجدية في التعاطي والاشتباك مع التحولات والأحداث.
يؤشر هذا التنميط على أن الدولة مهتمة بأن تقول للشارع الأردني إن نمط الإرادة السياسية وتوفير الغطاء السياسي هذه المرة مختلف تماماً عن المرات السابقة.
يعكس ذلك، بصرف النظر عن ما حصل خلف الكواليس والستارة من تجاذبات بين أعضاء لجنة تحديث المنظومة، مستوى الإدارة التي تميزت بالقدرة على المناورة والمناولة والصبر الكثير لأعمال اللجنة، حيث رجل دولة من وزن سمير الرفاعي ونخبة من الشخصيات الوطنية ومكتب تنفيذي وأعضاء تعاملوا بإيجابية مع النقاشات حتى انتهى الأمر اليوم بوجود خطة مرجعية وطنية تحظى بغطاء سياسي، ويعمل ويجتهد المسؤولون اليوم لتوفير إرادة سياسية تمثلها باسم تحديث المنظومة السياسية.
انشغلت الأوساط السياسية بقراءة «خارج الطبق» متعددة الاحتمالات لفهم لماذا تحدث الجنرال حسني مع صحافيين.
لكن ما قاله ضمنياً لقاء المؤسسة الأمنية وبعض أركانها مع الجسم الإعلامي بخصوص تحديث المنظومة السياسية أبعد بكثير من مجرد لقاء إعلامي أو لقاء لشرح وتبيان موقف، خصوصاً أن اللواء حسني استعرض موقف المنظومة الأمنية من العديد من الملفات الداخلية وبجرأة تحسب له هذه المرة، وبقدرة مرتفعة على التشخيص، في الوقت الذي يعكس فيه مثل هذا الخطاب التوافقات التي وعد بها بين مؤسسات وأجهزة الدولة الرئيس الرفاعي علناً وأمام «القدس العربي» مرتين على الأقل، بخصوص خطة التحول نحو البرامج الحزبية التي أمر بها الملك عبد الله الثاني.
بمعنى أو بآخر، هو تنميط جديد يوحي بأنها جدية هذه المرة، وبأنها صدرت، وبأن الجميع معني بالالتزام بها. وهو ما قاله بوضوح وصراحة الجنرال حسني للصحافيين عندما أكد بأن المؤسسة الأمنية تدعم مخرجات اللجنة وستقف إلى جانبها وتساندها. وهي رسالة يفترض أن يلتقطها أيضاً أعضاء مجلس النواب، تحديداً الذين ستحيل لهم الحكومة قريباً الصياغات والتعديلات التشريعية المطلوبة تحت عنوان تحديث المنظومة، مما يعني أن البلاد بدأت بوضع خطتها التنفيذية للاتجاه نحو نموذج جديد من إدارة العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، يقوم على تداول الإدارة الحزبية.

تجربة

وهي تجربة قد تنعكس لاحقاً على صنف ونوع تشكيل الحكومات. وقد تؤدي إلى تراكم الخبرة بصورة تعكس ما قاله أيضاً وبصفة خاصة الرئيس الرفاعي، عن حصول توافقات هذه المرة ليس داخل أعضاء اللجنة فقط، ولكن داخل جميع مؤسسات القرار، وهي توافقات من المرجح أنها لم تكن قادرة على تجاوز التجاذب لولا العمل المجتهد على توفير ضمانات وتأكيدات تلبي احتياجات المؤسسات العميقة في الدولة، والتي تحتفظ بالعادة بملاحظات لها علاقة بالأعمال الحزبية؛ فوسط وبين عبارات الجنرال حسني يمكن رصد جملة شرطية واحدة تؤكد على الهوية الوطنية الأردنية للأحزاب التي يمكن أن يكون مطلوباً منها في المستقبل القريب أن تتولى إدارة شؤون التشريع وتؤثر بقوة على مفاصل الحكومة والتنفيذ.
والهدف طبعاً وقف نزيف أي معاناة مستقبلاً لها علاقة بتنظيمات وتشكيلات حزبية يمكن أن «تدار من الخارج»، إضافة إلى وقف حالة التجاذب الناتجة عن ارتباطات بجبهات فلسطينية تحديداً. قد تكون تلك الجملة الشرطية الوحيدة من ضمن الكلام، وعرضت بدبلوماسية شديدة، لكن تلك كانت تعبيراً عن احتياجات الدولة العميقة التي تقف اليوم خلف الملك في تحقيق استجابة وحالة تجاذب نادرة يمكن الرهان عليها مستقبلاً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى