الأردن واللعب الإقليمي «ع المكشوف»: ماذا تكسب الدولة الآن ومستقبلاً من «التموقع» في حضن المحور السعودي؟
لا يمكن تطبيق معايير صارمة أو شعبوية عندما يتعلق الأمر بقياس بوصلة الأردن في التمحور والتموضع الإقليمي، حيث جدل تعاظم سابقاً بعنوان الموقع في عمق الأزمة الليبية ومنظومة التحالف مع المحور الثلاثي المصري السعودي الإماراتي.
التساؤلات كثيرة في تفاصيل هذا التموقع، وزادت بمعدلات قياسية، لكن بصمت محلياً بعد الإعلان عن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي الأخير برعاية البيت الأبيض بنسخته الحالية. والإجابات قليلة بطبيعة الحال، وقد كشف جانب من أزمة المعلمين الأخيرة في الشارع الأردني أن بعض الجهات الشعبية يمكن أن تفترض وتنقص وتزيد وتلاحظ على خطاب الدولة واتجاهات الدبلوماسية الأردنية، خصوصاً في الجزء الذي يتولاه ويعبر عنه وزير الخارجية النشط أيمن الصفدي، الذي قال يوماً لـ «القدس العربي» إن المواقف الأردنية ثابتة وواضحة، وبأنه شخصياً لا يدلي برأيه، وما يصرح به يمثل موقف الدولة.
جدل عاصف
قبل أسابيع قليلة، وجد الصفدي نفسه محاطاً بسلاسل من الجدل العاصف بعدما صرح علناً بأن بلاده تؤيد مبادرة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بخصوص الأزمة الليبية.ولاحقت النقاشات نفسها الرجل بعد بيانه المتحفظ الذي لا يقول شيئاً محدداً ضد أو مع الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي.
اعترض بكثافة على التصريحين إسلاميون ومعارضون وحراكيون وشعبويون، ولم تعلق الحكومة على مسار النقاش في الوقت الذي لم تشرح فيه للرأي العام خلفية ومعطيات الموقف الأردني في الحالتين.
وسط قيود «الجغرافيا السياسية» وكتلة من 600 ألف موظف في الرياض وأبو ظبي
عند التشخيص مثلاً، سمعت «القدس العربي» تحليلاً لميزان المصالح في المسألة الليبية التي يعتقد بأن خطورتها تكمن في أن أي موقف منها لا يعبر فقط عن مفاصل في المشهد الليبي نفسه بالقدر الذي يعبر عن حالة تمحور أصلاً، وعن الموقف الذي يريد القرار الأردني أن يكون فيه، بصرف النظر عن الأسباب وبوصلة المصالح.
لا تبدو المسألة، حسب شخصية مرجعية، اجتهاداً أو ميلاناً لطرف دون آخر؛ فالأردن في ظل شلل الحالة العراقية وتفتيت الحالة السورية والتحديات التي يفرضها عليه اليمين الإسرائيلي الطامع، لا يستطيع -لأسباب كثيرة- أن يقترب من حضن الأجندة التركية في المنطقة أو أن يبالغ في ملامسة مؤشرات الحنان الروسية.
والأردن لا يستطيع في الوقت نفسه وبالتوازي وبحكم اعتبارات سياسية مدروسة بدقة، التواصل مع شبكة إيران النافذة في المنطقة، الأمر الذي أنتج حيرة لعدد كبير من السياسيين في المملكة، وطرح تساؤلات عبر عنها حتى خبير دولي ووزير سابق من وزن الدكتور طالب الرفاعي، عندما قال مرات عدة أمام «القدس العربي» بأن حسابات المصالح العميقة ينبغي أن لا تمنع البوصلة الأردنية من التعددية والتنويع، خصوصاً في الجوار الإقليمي ودون مواجهة عواقب متخيلة ومفترضة فقط. ولا تجد وجهة نظر الرفاعي من يساندها اليوم في الطاقم الذي يدير الأمور في مؤسسات القرار الأردني.
وما يرشح من معطيات يؤشر إلى أن العنصر الأساسي الذي يجبر عمان على البقاء في أقرب مسافة ممكنة من أحضان المحور السعودي ليس فقط خروج العراق وسوريا من المعادلة تماماً مرحلياً، ولكن أيضاً – وقد يكون الأهم – فوبيا الخوف الشديد على كتلة ديمغرافية عملاقة من الأردنيين الذين لا يزالون يحتفظون بوظائفهم في دول مثل السعودية والإمارات.
في اجتماع سيادي، سأل أحد اللاعبين السياسيين تعليقاً على اقتراح بالتنويع والتعدد: حسناً.. ماذا نفعل إذا اتجهنا نحو التنويع المقصود، وقرر الشقيق السعودي إلغاء وظائف 400 ألف أردني وإعادتهم إلى بلادهم؟.. وماذا نفعل إزاء 200 ألف أردني مثلهم في دولة شقيقة ومهمة مثل الإمارات؟
إنكار هذه المخاوف في ميزان المصالح السياسية قد ينطوي على مزاودة عكس اتجاه بوصلة الدولة، فمن يقترحون اليوم ملامسة تركيا أو إيران أو أي محور آخر في الإقليم والعالم، ليست لديهم وصفة حقيقية لاستيعاب عودة محتملة في حال المجازفة لأكثر من نصف مليون أردني لا بد من توفير المدارس والمياه والوظائف لهم إذا جافى الأردن بالسياسة.
في العمق الرسمي، ثمة إقرار بأن فائض التعاون المنقوص الآن لفترة 14 سنة على الأقل كان يقدم فيها العراق القديم نفطاً مجانياً للأردن يبدل في خريطة التحالفات ويدفع أي أردني عاقل ومتزن للتحقق من أي خطوة أو كلمة.
الحضن السعودي
استناداً بالنتيجة إلى الوقائع الاقتصادية على الأرض الأردنية، فإن البقاء في المحور السعودي الثلاثي المشار إليه هو أسلم الطرق وأقلها كلفة، ليس فقط لأسباب مالية أو لأن العراق مشلول، ولكن أيضاً لأن الفناء الطبيعي للعلاقات الأردنية والتاريخي بقي دوماً الأقرب للمحور السعودي، ولا يثق بالمحور التركي خلافاً؛ لأن الفرقاء في ليبيا بالمقاييس الأردنية العميقة يفتقدون للشرعية، فيما الطرف الذي تقف عمان في الاتجاه المعاكس له لديه تراكم من العلاقات المرتبطة بتنظيمات الإسلام السياسي. في المقابل، يحاجج رموز الامتناع عن التنويع في البوصلة الأردنية بأن دولة مثل تركيا تأخذ ولا تعطي، وبأن بقاء العاملين في السعودية والإمارات حدث استراتيجي طوال الوقت، ويحاجج بأن المحور الآخر في الواقع لم يقدم شيئاً ملموساً للاقتصاد الأردني، وبأن المصالح الأردنية لا مكان لها خارج الفناء المصري بحكم طبيعة الجغرافيا السياسية وبحكم التاريخ.
وعليه، وفي حسابات الصف الرسمي، فإن القول بأن بقاء الأردن في المحور الثلاثي بنسبة أكبر من بقية المحاور هي مسألة خيار استراتيجي، وينبغي أن لا تزاود على الدولة هنا التشكيلات والتنظيمات السياسية في الداخل، بمن فيهم الإخوان المسلمون أو غيرهم.. على الأقل ثمة ما يوحي بأن مركز القرار يفكر بهذه الطريقة.
لكن اتفاقية إبراهام تخلط الأوراق مجدداً، ويخسر بموجبها الأردن بعض مكاسب الدور الإقليمي، خصوصاً أن أبو ظبي مؤهله أكثر من عمان للاندفاع مع اليمين الإسرائيلي الخطر على الأردنيين ومستقبلهم دولة وشعباً.. وهنا حصرياً، يكمن تحدي «اللعب على المكشوف الإقليمي».