«تحصين» الداخل الأردني و«المهمة الأصعب»
كوتيشن: بعض الممارسات البيروقراطية في الماضي ساهمت في إنتاج الثغرات والتأسيس للتجاذب والانقسامات

«تحصين الجبهة الداخلية» ما الذي تعنيه بصورة محددة هذه العبارة؟ لعلها العبارة الأكثر تكرارا على ألسنة الأردنيين وطوال الوقت وبصرف النظر عن شكل وهوية التحديات الداخلية والمخاطر الخارجية.
كلما رن جرس إنذار ما صعدت النخب السياسية والوطنية والأدبيات الشعبوية وحتى اللهجات الرسمية مجددا لتكرار تلك العبارة التي تحولت إلى متلازمة في نص كل من يريد الإفتاء أو يحذر أو حتى يتكهن ويتوقع.
هذه الأيام حصرا وبعد الأوراق التي خلطها بنيامين نتنياهو بإعلان ارتباطه الشخصي بمشروع إسرائيل الكبرى تراكمت في الساحة الأردنية وصفات تطرح بالجملة والأطنان منهجية تحصين الداخل وجميعها وصفات تحاول إعادة إنتاج أفضل النصائح وأدق التشخيصات لتحقيق الهدف.
أي حديث في صيانة وتحصين الجبهة الداخلية نبيل وذو قيمة ولا يمكن الاعتراض عليه. لكن الوصفات والتشخيصات والمقترحات تسقط بقصد أو بدونه في امتحان الإجابة على سؤال مسكوت عنه: لماذا تحتاج الجبهة الداخلية أصلا إلى تحصين أو صيانة أو تمكين؟
نزعم بأن الإجابة على هذا السؤال بصراحة وطنية ومسؤولية أخلاقية قد ينتج عنها بعض الإرباك لكنها في كل حال إجابة من الطراز الذي يمكن وصفه بالجرأة والشجاعة.
ومادام نتنياهو وطاقمه قد نطقها وأعلنها بكل صفاقة ووضوح ووقاحة لا بد من الإصرار على أن المصالح الوطنية العليا للأردن دولة وشعبا تتطلب أيضا جرأة وشجاعة في الغرق في التفاصيل قبل اقتراح الوصفات فقط.
وهي كما قلنا وصفات ودعوات نبيلة ولا يعترض عليها عاقل أو راشد، ليس لأن المخاطر الإسرائيلية وشيكة حقا وقولا وفعلا، ولكن لأن إنجاز أي مشروع وطني والتطلع للمستقبل يحتاج دوما جبهة داخلية صلبة ومتماسكة.
وما دام القوم صغارا وكبارا يتوافقون اليوم على أن الخبث الإسرائيلي يتسلل من ثغرات الجبهات الداخلية لا بد من معرفة الخلفيات والأسباب والظروف التي جعلت الجبهة الداخلية فيها ثغرات مفترضة أو محتملة وتحتاج إلى تحصين.
تلك هي المهمة الأصعب من الاقتراح والنصيحة والتي تحتاج إلى جرأة وصراحة لأن تحصين وتمكين وتمتين الجبهة الداخلية لا يبدأ من القول والإعلام والتقدم بمقترحات محددة، بصرف النظر عن هويتها، لكن يبدأ حصرا من معالجة الأسباب التي تغذي هشاشة المجتمع أو تؤدي إلى تسمين الثغرات فيه حتى يحتاج لصيانة وتوحيد.
حديث الأسباب هنا هو الالتهاب الحقيقي، وتحصين الجبهة الداخلية الأردنية ينبغي أن يصبح الهم الأول لكل الشرفاء ولكل من يدعي الوطنية لكن المعالجة مجددا تبدأ من مناقشة صريحة وجريئة للأسباب، وقد تتطلب إجراءات جراحية قاسية على المستوى البيروقراطي والإداري والسياسي العميق.
يتوجب أن نفهم جميعا أن الدولة مؤمنة بالمطروح ولو مرحليا قبل الذهاب في مشوار ما يسميه غالبيتنا بتحصين الجبهة الداخلية.
الافتراض بأن الجبهة الداخلية الأردنية هشة وقابلة للاختراق يحتاج لمناقشة، ولعل أوراق القوة عند القياس والمقارنة والمقاربة في يد الأردنيين أكثر بكثير منها في أحضان الشعوب المجاورة خصوصا في الدول التي تتصارع فيها طوائف وشرائح وشهدت اضطرابات وانقلابات.
المؤسسة الأردنية بمعنى الشرعية هي الورقة الرابحة أكثر والتي تحظى بالإجماع، والشعب الأردني حتى عندما يختلف أو يغضب تبقى مشاعره نبيلة ومتمسكة بالمؤسسات السيادية التي يعرفها الجميع.. تلك أيضا ورقة رابحة أخرى.
ثمة ورقة أخرى مهمة: بنية العشائر الأردنية بمختلف تكويناتها بقيت مدرسة في التوافق والاحترام والولاء والانتماء، والأهم في التمسك بثوابت القضية الفلسطينية.
توحيد الأردنيين ليس صعبا إطلاقا.
لكن الحاجة مرحليا له استثنائية الأهمية، مادام العدو يكشر عن أنيابه ويكشف مخالبه وأطماعه وطموحاته.
المبادرة في تحصين الجبهة الداخلية لا تتطلب فقط صراحة وجرأة من الناس والنخب والمثقفين والنشطاء بل مبادرات جريئة أيضا من دوائر القرار، لأن الدولة الأردنية لديها ميزة غير متاحة في دول عربية وإقليمية أخرى، فهي كانت ولا تزال ويبدو أنها ستبقى المعبر الأساسي والمركزي عن الهوية السياسية للشعب الأردني.
المطلوب قرار سياسي مركزي بالعودة إلى قواعد اللعب النظيف.
المطلوب مصارحات ورسائل بقوة القانون لمن يسيء الأدب ويأمن العقوبة عند المساس بوحدة الشعب.
المطلوب أيضا أجهزة ومؤسسات بيروقراطية تستعيد يقين الأردنيين بحكوماتهم عبر زرع اليقين بها لدى المواطنين.
تحصين الجبهة الداخلية مهم وأساسي ونبيل. الأهم لتحقيق إنتاجية أفضل في المسار مناقشة ثم معالجة الأسباب التي دفعت باتجاه حصول أو وجود ثغرات في الجبهة الداخلية، بما في ذلك إعادة تقييم أداء أذرع الإعلام الرسمي البائس ودور الصالونات والنخب والشللية في ترويج الفتنة بين الناس واتخاذ إجراءات صريحة وسريعة وجدية توقف تماما كل طقوس وتقاليد التفريق بين الأردنيين باعتبارها وصفات للضبط والربط والسيطرة والإدارة.
في كل صراحة تحصين الجبهة الداخلية مهمة نبيلة، الخطاب بشأنها ينبغي أن يوجه للدولة والمؤسسات الرسمية أيضا لأن بعض الممارسات البيروقراطية في الماضي ساهمت في إنتاج الثغرات والتأسيس للتجاذب والانقسامات.
