اراء و مقالات

الأردن: «لغز» عامي 1988 و2011… 90 تعييناً في الصف الأول خلال عامين والاختيار «من الموجود» والإصلاح «يترنح»

عمان – «القدس العربي»: الأرقام التي أعلنت في العاصمة الأردنية عمان، أمس الأحد، تحت عنوان تعييين وإعادة تعيين 90 قيادياً في الإدارة العامة خلال عامين فقط، تعني الكثير سياسياً وبيروقراطياً وإعلامياً في حال التعمق في قراءة معطياتها. يفترض أن حكومة الرئيس الدكتور بشر الخصاونة اتخذت في عامين من صنف القرارات الإدارية أكثر من 700 قرار.
بين تلك القرارات الإدارية 69 قراراً اختص بتعيين قيادات عليا جديدة، شملت اختيار 90 قيادياً في مواقع متقدمة من الإطار البيروقراطي، وبين هؤلاء 18 شخصاً تم تعيينهم في موقع الأمين العام للوزارة، و16 شخصاً لموقع المدير العام، وبينهم أيضاً عشرات تحت عنوان تعيين أعضاء في مجالس مفوضين أو إعادة تجديد تفويضات.

عدد كبير

تلك الأرقام من حيث التعيينات واختيار القيادات تعني ضمنياً بأن حكومة الخصاونة عملياً حصلت على مساحتها كاملاً في اختيار وانتقاء قيادات الصف الأول، ومع وجود سلسلة من وثائق ومقترحات التحفيز الإداري والاقتصادي يمكن القول بأن الحكومة في تعييناتها ينبغي أن تنسجم مع وثائقها ورؤيتها.
لكن عدد التعيينات كبير وفائض ويوحي بإدراك مطبخ رئاسة الحكومة لطبيعة التحدي الإداري والبيروقراطي، وإن كان هذا العدد من التعيينات العليا في الإدارة كفيلاً -لو كانت الظروف عموماً طبيعية ومنتجة- في إحداث ثورة حقيقية تحت عنوان إصلاح خدمات القطاع العام أو تطوير بينية الإدارة العامة.
تلك الثورة مفترضة طبعاً ولا يوازنها أداء إداري متميز حتى اللحظة، والحكومة في أغلب الأوقات انشغلت بواجباتها الموكلة إليها تحت عنوان التعافي من الفايروس كورونا، وانشغلت -كما صرح وزير المالية فيها الدكتور محمد العسعس- بأولويات البقاء على قيد الحياة اقتصادياً ومالياً؛ بمعنى الصمود ثم الانتقال للتعافي.
العسعس كان قد شرح في حوارات متعددة مع «القدس العربي» نظرية توجهات الحكومة التي حرصت على استيعاب المستجدات دون التورط بما تورطت به سلسلة من حكومات الماضي تحت عنوان فرض ضرائب جديدة.
بعد هذا المعنى، يمكن القول إن وزارة الخصاونة قد تكون الوحيدة منذ سنوات طويلة التي امتنعت عن استخدام الوصفة الأسهل فعلاً بتعويض العجز المالي للميزانية عبر تجنب رفع الضريبة بأي صيغة مباشرة على المواطنين، لا في السلع ولا في الخدمات.
لكن الوزير العسعس نفسه يقر بالحاجة الملحة وطنياً لخطط أعمق وأشمل في مجال إصلاح البنية الإدارية، ملاحظاً وبصراحة بأن الدول الشقيقة والمجاورة التي كانت تستعين بخبرات الأردنيين تفوقت الآن على الجميع وقطعت مسافات كبيرة في مجال الإدارة المنتجة والعمل المؤسسي.
في كل حال، حتى رئيس الوزراء بشر الخصاونة شخصياً، لم ينكر يوماً لا علناً ولا على هامش نقاشات مع «القدس العربي»، وجود تصدعات حقيقية على مستوى الإدارة.
لكن بالنسبة لأي رئيس وزراء لديه ورثة كاملة من المشكلات والتحديات، فإن الخيار الوحيد أمامه في مربع الإدارة العامة هو تجديد الأطقم والاستعانة بخبرات جديدة، وهي عملية مستمرة من المرصود أنها تحصل بشكل دوري دون تقييم حقيقي أو دون رفع لمستوى كفاءات نخب الإدارة العامة ومواصفات قادرة على تحقيق اختراقات وإصلاحات، فمجلس الوزراء «يختار من الموجود». وخبراء القطاع الخاص يعلمون بأن الكفاءات الاحترافية الحقيقية في العديد من القطاعات لا ترغب في وظيفة الحكومة ولا تقبل راتبها.

«الاختيار من الموجود»

الاختيار من الموجود هو معضلة طاقم الإدارة الأردنية العليا، لأنه يعني ببساطة الاختيار من الموجود والمتاح وعلى أساس المحاصصة الجهوية والمناطقية، الأمر الذي ألحق ضرراً بالغاً وتسبب بتراجعات إدارية حادة لا يمكن لا للخصاونة ولا لمن سبقه في رئاسة الوزراء إنكارها.
الحكومات جميعاً في السنوات العشر الماضية، تحدثت عن الإصلاح الإداري وعن تحسين خدمات القطاع العام، والمطلوب اليوم -في رأي خبير مراقب مثل الدكتور أنور الخفش- قد يكون إنقاذ ما تبقى من سمعة الإدارة والحفاظ على سمعة المحتوى الحالي من خدمات القطاع العام، ووقف التراجعات التي قال علناً تقرير حيوي للمجلس الاقتصادي الاجتماعي الحكومي إنها تشمل كل المؤسسات.

سؤال معقد

بدا لافتاً في السياق أن عبء الإصلاح الإداري عبر الاسترسال في المزيد من التعيينات وإعادة تدوير الوظائف الأعلى والخيار اليتيم اليوم هو أمام أي حكومة، لكنه خيار لم يعد منتجاً ولا يقدم خدمة حقيقية لاحتياجات الإدارة العامة، بدلالة أن تعيين أكثر من 90 قيادياً في جهاز الإدارة خلال عامين في عهد الخصاونة لم ينتج عنه بأي شكل من الأشكال لا رفع مستوى رضا الشعب العام عن أداء الحكومة، ولا نقل قرارات مجلس الوزراء إلى مستوى متقدم وفاعل حقيقي على صعيد إنجاز ما تم الالتزام به علناً.
رغم هذا الحجم المتكرر والعابر لحكومات بالمناسبة من التعيينات في مواقع الصف الأول، بقي السؤال عالقاً: تعيينات إدارية دائمة ومتكررة بهذا الحجم يفترض أن تقود لثورة في الإصلاح الإداري، لكن ليس فقط ذلك ما لا يحصل بل يستمر التراجع.. لماذا؟
سؤال معقد وصعب لا تجيب عنه الحكومات حتى اللحظة بصراحة، مع أن الرئيس الخصاونة مؤمن شخصياً بتلازم مسارات الإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري، ومع أن حكومته ليس من الإنصاف أن تتحمل وحدها مسؤولية التراجع الإداري ولا مسؤولية تغيير قواعد اللعبة الإدارية عقائدياً وسياسياً، الأمر الذي يؤسس لسيناريو في عقيدة الإصلاح الإداري يفترض بأن تلك المناقلات والتعيينات لا يزال المطلوب منها فقط هو المحاصصة وإرضاء المناطقية والجهوية، وتلك قد تكون القيمة اليتيمة لها؛ لأنها تدير الأعمال فقط ولا تنتج وقائع إدارية مستجدة.
تلك وظيفة يعرفها الجميع طبعاً لتعيينات المناصب والوظائف العليا التي تتكاثر دون مسوغ إداري مفهوم وتصبح عابرة للحكومات بين الحين والآخر، وبصورة تعيد إنتاج القناعة بأن الخارطة الإدارية الأردنية رغم كل القرارات والإفصاحات بعقمها وتراجعها لاتزال رهينة للتشخيص الجريء في مقر رئاسة الوزراء القائل بتحولات صعبة بعد عامي 1988 و2011.
في عام 1988 فرضت بصمات محددة الطابع في اختيار قيادات إدارية ضمن ترتيبات ما بعد قرار فك الارتباط الشهير. وبعد عام 2011 ولدت ونشأت وترعرعت تلك النظرية التي تفرط بالاحتراف والمهنية بهدف الإرضاء الأمني بين شرائح المجتمع ومكوناته.
حجم التعيينات المشار إليه يثبت مجدداً بأن الأردن، ولسوء الحظ في معطيات الإدارة العليا، يعيش في حالة استفراد وتجمد مرتبطة بعقدتي عامي 1988 و2011.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى