أحزاب الأردن: لماذا «القصف المبكر»؟
المحسوبة على الخط المحافظ قد ترى فعلا بتجديد النخبة عبر العمل الحزبي تهديدا لمصالحها المباشرة والمرتبطة بامتيازات شخصية وليست وطنية
الفارق ملموس ويمكن رصده ما بين الملاحظة النقدية على العمل الحزبي في الأردن لأهداف نبيلة، مثل تصويب المسيرة ودفع الأمور لأفضل وصفة تحديثية ممكنة، وما بين قصف الأحزاب الجديدة بهدف إعاقتها والحد من نضجها وطموحها لا بل عرقلة مسيرتها.
صحيح أن مسيرة الأحزاب عانت من تصدعات التدخل والهندسة. وصحيح أن تلك الأحزاب لو تركت وحدها لإطار برامجي ولولادة طبيعية منطقية بدون هندسة أو تدخل قد تكون في وضع أفضل وصحيح أيضا أن الوصاية على العمل الحزبي التي مورست رسميا بصيغة ما ليست شرطا أن تحقق للدولة حساباتها ومصالحها.
لكن صحيح بالمقابل وهذا مثير إلى حد ملموس أن من يسخرون من الأحزاب السياسية الجديدة في الساحة اليوم ويزرعون الإحباط في طريقها بعضهم حزبيون عقائديون في الماضي بنسبة معقولة، أغرتهم أحضان السلطة فانقلبوا على أحزابهم وتجربتهم وعلى فكرة الأحزاب برمتها.
المحسوبة على الخط المحافظ قد ترى فعلا بتجديد النخبة عبر العمل الحزبي تهديدا لمصالحها المباشرة والمرتبطة بامتيازات شخصية وليست وطنية
مثير جدا أن خبراء في العمل السري الحزبي وفي الانقلابات ضد النظام والدولة وفي التنظيمات التي كانت في الماضي سرية يتحولون اليوم لأداة شرسة تنظر ضد الأحزاب الجديدة في مفارقة لا يمكن رصدها إلا في الحالة الأردنية.
هذا التحول من هذه الشريحة تحديدا حصل بعدما تمتعت بعض النخب لعقود بكل ما توفره عملية الجلوس الطويل في أحضان السلطة وعلى أكتاف الشعب.
بالمعنى السياسي المباشر، الأخطاء المنهجية والهندسية التي ارتكبت ولا يمكن إنكارها في تجربة التحديث للمنظومة السياسية في البلاد ليست مبررا ولا ينبغي أن تكون لكي تهاجم الأحزاب السياسية الجديدة بهذه القسوة والغلاظة من جهة خبراء العمل العام والحزبي خصوصا أولئك الذين أصبحوا في غفلة من الزمن في الماضي أدوات خشنة تعسفية باسم الولاء والسلطة. من حق الجميع طبعا أن يلاحظ على الأحزاب.
من حق الجميع أن يحاسبها لكن إطلاق موجة من التشكيك المبكر فيها على النحو المختل الذي لاحظناه أحيانا مؤخرا يعني بأن ما يسميه بعض المحللين بقوى الأمر الواقع تهاجم التجربة منطلقة من أغراض انتهازية وليست وطنية، لأن أي حزب جديد يفترض أن ينضج أكثر مع الوقت وتحتاج مسيرته لأخطاء وعثرات حتى يصبح التصويب منطقيا.
شاهدنا في العالم الديمقراطي برمته أحزابا ولدت صغيرة وزاحفة، ومع الأيام والسنوات حكمت باسم الأغلبية، والعكس صحيح أيضا، فقد شاهدنا أحزابا عريقة وعملاقة وتجربتها تمتد لمئات السنوات تجددت أو تعثرت أو عاقبها الناخبون.
أحتفظ كغيري بملاحظات لكن السؤال هو: لماذا لا يريد البعض أن يسمح للتجربة الحزبية الأردنية بأن تولد وتنضج وتخطئ وتصيب؟
من هي تلك القوى التي تركز على السلبي في الأحزاب اليوم، وتحرض القرار والشارع ضدها على هذا الأساس؟… ما هي المكاسب التي تحصل عليها تلك الشرائح؟
أغلب التقدير هنا أن تلك الأسئلة لم تعد حرجة فبعض التيارات النخبوية المحسوبة على الخط المحافظ قد ترى فعلا بتجديد النخبة عبر العمل الحزبي تهديدا لمصالحها المباشرة والمرتبطة بامتيازات شخصية وليست وطنية.
وبعض الناقدين الشرسين للأحزاب قبل الانتخابات قد يكونون برسم القلق من عملية استبدال مفترضة لا أحد يجازف بها حتى الآن على الأقل على أساس أن صعود الأحزاب السياسية سيحدث تغييرات في البنية البيروقراطية.
ليس صحيحا إطلاقا أن الأحزاب البرامجية تسحب من دور العشائر الوطني الذي لا ينكره إلا جاحد، وليس صحيحا أن الانتقال إلى المسار الحزبي بالتدريج سينتهي بالمساس بأي حقوق مكتسبة، وليس صحيحا بالمقابل بأن نمو دور الأحزاب هو العنصر المؤثر في مشروع التحول من دولة رعوية إلى دولة الإنتاج.
كل تلك الأفكار والتحولات تحتاج لما هو أعمق وأبعد وأكثر بكثير من مجرد تخصيص قائمة عامة في مقاعد السلطة التشريعية للأحزاب.
وجود نمط حزبي متدرج منطقي قد ينتهي بنتائج معاكسة لتوقعات البعض، بمعنى الحفاظ على المحاصصات الكلاسيكية في المجتمع، لكن ضمن رؤية برامجية هذه المرة، ووضع إطار لأي خطة مرتبطة بالتحول نحو دولة الإنتاج، بما لا يلحق ضررا بالمواطن والبنية البيروقراطية.
ما يقال ضد أحزاب المنظومة السياسية بعضه صحيح، لكن جله جزافي ومبالغ فيه، ويفترض أن التحول باتجاه تنمية سياسية على أساس حزبي مساحة توفر للمواطن الأردني عبر التداول الحزبي فرصة المساءلة والشفافية لا بل معاقبة الأحزاب التي تفشل برامجيا مستقبلا عبر صناديق الاقتراع.
خياران لا ثالث لهما وهما البقاء في العدمية والسلبية وإحاطة الأحزاب الوليدة الجديدة بدرب من الكمائن المزروعة لأسباب انتهازية وشخصية لإحباطها وقمعها والتعريض بها مجانا.
أو الانتقاد المنتج أكثر بمعنى حصر الملاحظات النقدية بدون تشويه أو مبالغة أو تضخيم في زاوية النقد البناء والاشتباك الإيجابي بمعنى استثمار الفرصة ووقف الحرب على أحزاب لم تولد بعد ومن الطبيعي أن تتعثر قليلا ثم تكسب خبرة مع الوقت.