الأردن: المطلوب تحديث بدون «تقسيط»
المطلوب تحديث العقلية البيروقراطية السائدة في جميع المؤسسات أفقيا وإعادة تأهيل وتدريب الكوادر في القطاع العام حصرا

لا يمكن عمليا تجزئة التحديث، خصوصا عندما يتحول التحديث السياسي والاقتصادي ومعه الإداري إلى استراتيجية وطنية عامة، كما يحصل في الحالة الأردنية حيث صدرت كل الأضواء الخضراء للعبور بوثائق وتشريعات ومسارات التحديث السياسي والاقتصادي والإداري.
نقول بعدم جواز تجزئة التحديث حيث قيمة عصرنة الدولة والتحول إلى دولة المؤسسات أو رفع معيار دولة المؤسسات في سلم الأولويات الوطنية، وحتى أن اللجوء أحيانا وبصرف النظر عن المبرر إلى نظام التحديث بالقطعة والتقسيط يلحق ضررا ليس بالعملية المرجعية فقط، ولكن بالمصالح العامة خصوصا في جزئية وظيفة المسار التحديثي الأساسية وهي «استعادة ثقة المواطن بالمؤسسات».
يعني ذلك أن التجزئة مرفوضة وأن أي اتجاه أو مسار على المستوى البيروقراطي لا يعتمد نفس المعايير الوطنية التي حصلت على الضوء الأخضر في مسارات التحديث الثلاثي يصبح شاذا عن القاعدة.
يرتب تجنب الشذوذ عن القواعد المرسومة مسؤوليات على جميع الأطراف خصوصا الحكومية، ويصبح لزاما على الذاكرة الجمعية البقاء في منطقة أمان توفر الحماية لـ«تطبيقات التحديث» الواقعية.
هنا لا بد من الانتباه لبعض المحاذير لأن تجزئة مسارات التحديث منهجية ضارة بالمبدأ والمعاني والدلالات. لابد من الالتزام الحرفي وإظهار قدر من الخضوع أو التقدير والامتثال لتوجهات مسارات التحديث.
كل معني بالملف والمسار عليه أن يدرك مسبقا بأن هذه التجزئة منبوذة ومرفوضة، ولا يمكن الاستمرار بالصمت عليها.
المطلوب أيضا تحديث العقلية البيروقراطية السائدة في جميع المؤسسات أفقيا، وإعادة تأهيل وتدريب الكوادر في القطاع العام حصرا في اتجاه إقناع الجميع فعلا بأن التحديث السياسي الوطني الشامل ليس مجرد جمعة مشمشية، ولا مجرد مشوار تقرر أو يمكن أن يتقرر لاحقا التراجع عنه. وهو بكل تأكيد ليس عبوة عصير يمكن إعادة سكبها في الإبريق مرة أخرى.
الذين مالوا لمناكفة بعض التيارات والحراكات بالتلويح بوقف مسار التحديث وترحيل البرلمان والدعوة للتراجع عن الانتخابات قدموا في الواقع خدمة مباشرة تخلخل معاني التحديث وبرمجياته في وجدان الأردنيين.
من الممارسات التي لمسناها جميعا على صعيد التحديث السياسي والاقتصادي بعد عامين تقريبا ونصف من وضع الأسس والوثائق المرجعية نرصد مع الراصدين حملة عكسية مضادة للتحديث ومساراته مريبة جدا، وترتدي ثوب الوعظ والإرشاد وأحيانا الانتماء والولاء والوطنية.
المطلوب تحديث العقلية البيروقراطية السائدة في جميع المؤسسات أفقيا وإعادة تأهيل وتدريب الكوادر في القطاع العام حصرا
لابد من تذكير أصحاب القرار وعلية القوم وطبقة رجال الدولة والنخب السياسية والقوى الوطنية في المجتمع الأردني بأن التراجع عن التحديث ليس واردا، ولا يخطر في الذهن الآن، وبأن مسارات التحديث في الواقع استراتيجية عمل وطني وهو ما ورد حصرا على لسان المرجعيات وعدة مرات.
وعليه لابد من التصرف والتطبيق على أساس الضمانات دون تكرارها لفظيا فقط أو التحدث عنها بصيغة إعلامية استهلاكية.
وفي المقابل مطلوب تثقيف كوادر القطاع العام والأجهزة البيروقراطية بمختلف تصنيفاتها وتنويعاتها على المرحلة الجديدة وعلى التعاطي مع التحديث بجدية، خصوصا وأن قوى الشد العكسي موجودة في الساحة إداريا واقتصاديا.
والأهم سياسيا فيما القوى التي لا تجيد التعامل مع التحديث وترتاب به، ولم يسبق لها أن عملت ضمن منظومات محدثة أيضا موجودة وتسيطر على الكثير من المفاصل الإدارية.
بالتالي لا بد من الانتقال بمسارات التحديث من الإطار المرجعي المرتبط باللجنة الملكية العليا التي قررت التحديث السياسي وورش العمل التي استضافها الديوان الملكي في اتجاه المستويات الإدارية والبيروقراطية الأدنى.
والمعنى هنا التحول من تحديث الوثائق والسيناريوهات المكتوبة إلى التحديث الميداني الإجرائي العملي، وبصورة تسحب رجل المواطن الأردني مجددا إلى العملية التحديثية لدعمها وتأسيس حواضن اجتماعية عريضة وعميقة وواسعة تلتحق بمسارات التحديث، وتعيد إنتاج المشهد الشعبي حتى يتمكن المواطنون من تبادل المنفعة والثقافة التحديثية بعيدا عن الانتهازية والفردية وحتى بعيدا عن الهويات الفرعية.
ليس سرا أن التحديث ينبغي أن يطال أيضا الأرشيف الرسمي بمعنى القيود بمعناها البيروقراطي والأمني، وحصرا تلك التي لم تخضع لتحقيق ولم تخضع لتجديد وأحيانا لمتابعة.
يبدو أن القيود والمعطيات والمعلومات والتشخيصات والقرارات التي كانت تبنى على أرشيف وتصورات الماضي إداريا وسياسيا وأمنيا واقتصاديا في حاجة أيضا مثل اتفاقية وادي عربة لنفض الغبار عنها، إذا كانت الدولة ومراكز القرار جادة حقيقة فعلا في الانتقال لمستويات التثقيف التحديثي، وليس التعامل مع التحديث باعتباره مجرد أفكار أو توصيات أو وثائق أو باعتباره مجرد أوراق مرمية في المتحف.
إعادة صهر التجربة التحديثية يتطلب أداء رفيعا من هذا المستوى والانتقال بالمسار التحديثي برمته حتى إلى مفاصل كانت تعتبر في الإدارة العليا والبيروقراطية دوما من المفاصل الحساسة، لأن مثل هذا الخطاب ومثل هذا النمط من التصنيف ما بين الوثائق والقرارات والقيود الأرشيفية، ينتمي الى مرحلة ما قبل إقرار استراتيجية التحديث الوطنية.
مجددا المشاغبون كثر على مسارات التحديث ولا بد من توجيه بعض الرسائل المفحمة لهم.