الأردن بعد «حرب الجيران»: نقاشات «انقسامية» تستحضر الراحل صدام والمخلوع بشار… والصدارة لـ «شيطنة إيران»

عمان ـ «القدس العربي»: وضعت «حرب الجيران» بشقها العنيف عسكرياً أوزارها مؤقتاً، لكن أسئلة «الجيوسياسي الأردني» لا تزال عالقة تحت غلاف معادلة «المصالح- والتسوية المقبلة» بين إيران وإسرائيل، فيما عمان الرسمية لا تقول شيئاً محدداً في «التداعيات والاحتمالات»، وتترك الميكروفون لـ «اجتهادات» الشارع والنخب.
الدبلوماسي الأردني المخضرم الدكتور موسى بريزات، خرج بانطباعات سلبية مؤخراً بعد حضور «ندوة» يفترض أن تتفاعل فيها اجتهادات «العقلاء والمثقفين المفكرين» لتكون النتيجة بروز تناقضات حادة.
كادت التناقضات في ندوة نظمت من مؤسسة مختصة بالكتاب، أن تتطور إلى «اشتباك بالأيدي»، وتعالت الصرخات ما بين آراء «تشيطن إيران» وتحذر من مشروعها وأجندتها، وأخرى تركز على شيطنة «المعتدي الإسرائيلي».
بوجود «القدس العربي»، تحدث بريزات عن شعوره بالأسف لمثل هذا النمط من الحوار الذي يفترض أن يبقى نخبوياً ويتعالى عن الشخصنة الذاتية، ويحدد أو يساهم في ترسيم منطقة المصالح الاساسية للأردن، بعيداً عن أي مقاربات مؤدلجة أو معلبة.
«الخطأ الجسيم»
البريزات، وهو دبلوماسي عريق، عبر مبكراً عن قناعته بأن الخطأ الجسيم الأبرز يتمثل في رهان بعض «الاجتهادات العربية الرسمية» على أن «منظومة الأمن القومي العربية» عموماً مرتبطة -للأسف- بـ «أمن العدو الإسرائيلي». هنا حصراً تصور «أمريكي» لم يعد من الحكمة الاستناد إليه، لا بالتصرف ولا بالتعليق والتحليل.
لكن المهم في السياق، أن الندوة الأولى في عمان الأسبوع الماضي بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، أظهرت مجدداً انقساماً حاداً وأفقياً بين نشطاء السياسة المحليين بصيغة تعيد إلى الأذهان استحضار حوارات صاخبة في الماضي سجل معظمها في عهد الراحل صدام حسين وأكثرها إثارة لاحقاً في عهد «المخلوع» بشار الأسد.
عملياً، يجيد أدعياء النقاش والسياسة والفكر والثقافة في الإطار المحلي الانقسام في اللحظات الحرجة التي تتطلب التوحد على الأقل من أجل الوصول إلى خلاصة «وطنية» تضع وصفات تساعد في توثيق «تقدير موقف» أردني في النتيجة، على حد تعبير مقترح الوزير الأسبق الدكتور بسام العموش.
وبدلاً من البحث عن مساحات مشتركة تقرأ وتدرس كيفية تعاطي الجغرافيا السيادية الأردنية مع معركة الـ 12 يوماً بين إسرائيل وإيران، ظهرت مجدداً موجات من التخندق المسبق الانقسامي الذي ينقل فهم «المصلحة الوطنية» إلى مستويات متدنية من خطاب شوفيني يسعى لـ «تصنيف الأردنيين» ما بين «مؤيد» لإيران أومشكك بنواياها تجاه «المملكة»، الأمر الذي تحتفظ به الذاكرة الأردنية في سلسلة نقاشات عبثية بالماضي ترافقت مع مشاريع أمريكية لإسقاط النظامين السابقين في سوريا والعراق.
حرب الجيران الأخيرة في هذا المعنى، أظهرت مجدداً «صعوبة» توحيد حتى نقاشات الأردنيين مع ترصيد الملاحظة التي سجلها بين يدي «القدس العربي» السياسي الخبير الدكتور ممدوح العبادي قبل يومين وهو «يلاحظ» بأن الحوار الوطني بعد الحدث الجلل الأخير كان ينبغي أن تقوده «مؤسسات الدولة والمجتمع» وبصيغة جدية، على درب تجنب أي خلاف أو انقسام بصيغة تؤذي إمكانية التوصل لـ «نص وطني» أو «رؤية وطنية»، على حد تعبير عضو مجلس الأعيان ورئيس غرفة تجار الأردن خليل الحاج توفيق. تركت الحكومة الأدوات والنخب في مستويات «الاجتهاد الطوعي» ولم تبرز أي حوارات عميقة، لا على مستوى المؤسسات التشريعية ولا الحكومية، ولا حتى على مستوى «المعاهد ومراكز الدراسات» المحظية أو حتى «الممولة».
النتيجة واضحة وملموسة ومرصودة: حوار صاخب أقرب إلى «مشاجرة» بين كتاب نصوص ومثقفين يحترفون الانقسام في كل زاوية إقليمية حرجة. وقراءات «سطحية» للحدث تبث عبر أذرع الإعلام الرسمي و«لجان تشريعية» تركت «حائرة بلا معطيات» وأحياناً بلا توجيهات، وطبقة من رجال الدولة في خاصية «الصمت والجهل»، إضافة إلى «قطاع خاص» بكامل رموزه خارج الموضوع والتغطية.
حوار صاخب
في الأثناء، برز ما هو الأسوأ عملياً؛ فالخطابة على منابر الإعلام الرسمي محتكرة حصراً للأفواه التي احترفت منذ سنوات «شيطنة كل المحور» وتفاضل عددي في الأصوات التي تعزف فجأة على وتر «الشيطان الإيراني» دون أدنى ملامسة للشيطان الإسرائيلي ومخاطره.
حجم «المحتوى» الذي يهاجم إيران مؤخراً في منصات الأردنيين ومقالات كتاب السلطة المقربين يشكل علامة فارقة لا يمكن نكرانها، ويجب تأملها سواء ظهر الأمر على كل شكل إعادة نشر فبركة متلفزة تجمع الجنرال قاسمي سليماني مع «الموساد» في العالم الافتراضي، أو ظهر بصيغة نصوص تصر على أن طهران «لا تخوض معركة القدس وفلسطين»، مع أن الشارع الذي يساند الأداء الإيراني الآن بسبب الصواريخ التي قصفت تل أبيب لا يقول بذلك أساساً. تلك نصوص قيلت بمستوى استهلاكي مرتفع خلال أيام الاشتباك العسكري. وما يمكن ملاحظته أن الأطراف التي تتهم طهران بالسعي لتوريط الأردنيين بالصراع وتتخذ من تلك التهمة أساساً للدفاع الوطني، لا تخطط ولو لمجرد «عبور» على حقيقة تقول بأن المزاج الشعبي الأردني وإزاء مجازر إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة يطبق معيار المثل القائل «اليوم بجارك.. بكره بدارك».
وفي الواقع، لا أحد في النخبة المشتبكة رسمياً وأيديولوجياً وإعلامياً في عمان يقدم للرأي العام أي خلاصة استراتيجية تشرح ما حصل وتتوقع ما سيحصل. وأغلب الظن أن الذهنية الحكومية قليلة الحيلة والتدبير، لم يعجبها تصفيق الشعب الأردني وتصفيره لـ «صواريخ إيران»، لا بل تصويرها ولمسها وإطلاق الزغاريد من أجلها أأأحياناً؛ فبادرت لإسناد فكرة «شيطنة إيران» فقط، ما يفسر تلك الحملات المنصاتية والنصية.. أو هكذا بدا الأمر على الأقل.