اراء و مقالات

الأردن: «تنظير» للتراجع عن «التحديث»

لا يمكن حل مشكلة الأحزاب الوسطية في أزمة مصداقيتها عند الجمهور عبر حرمان أي حزب من لون آخر من حقوقه بالمنافسة والمشاركة

بدأت مرحلة الادعاء بأن كلفة «التحديث السياسي» في الأردن «كبيرة جدا» على الدولة وتُحدث خللا في المجتمع الذي يحتاج دوما وأبدا- بموجب أصحاب هذا الرأي- إلى «وصاية « عليه من جهة حكومة تزعم أنها «أكثر حكمة ورشدا» من الشعب وحرصا على المصلحة العامة منه، علما بأن العكس تماما هو الصحيح.
يعرض دعاة موسم» الخصومات» وتخفيض الأسقف بعض الحجج والذرائع لتبرير حالة تراجع عن مسار تحديث الدولة سياسيا وتتخذ هذه النصائح والوصايا نمطية الحمل الواعظ الذي يريد تقديم خدمة مجانية لأهل القرية.
الذريعة الأكبر هي تلك التي تقول بأن المجتمع الأردني ليس مستعدا بعد لـ«جرعة كبيرة» على شكل إستراتيجية تحديث سياسي تجعل الأحزاب السياسية البرامجية هي الأساس في التفاعل بين المؤسسات والمواطنين.
تلك الفرية تفترض مجددا بأن المجتمع غير راشد بعد ولا تعتبر الممارسة الديموقراطية ملائمة له ولم يغادر بعد منطق «الدولة الرعوية» وبوصلته الانتخابية تمثل الهوية الفرعية وليس الحزبية خلافا طبعا- وهذه صحيحة إلى حد بعيد- أن أولويات الأردنيين ليست الديمقراطية ولا الانتخابات ولا الإصلاح السياسي، بل حصرا «لقمة العيش» والتحديات الاقتصادية المعيشية.
الذريعة الثانية التي تقال وتعرض في كواليس النقاشات التي تريد التراجع عن مسار التحديث باعتباره «خطأ وتسرعا» هي تلك التي تقول بأن الحزب الوحيد المؤهل ولديه خبرة وسمح له بالعمل وسط الجمهور منذ 70 عاما هو حزب جبهة العمل الإسلامي. وبالتالي هذا الحزب المعارض هو»المستفيد الأبرز» من مسارات التحديث والتمثيل الانتخابي ما دامت بقية الأحزاب عاجزة أو أخفقت أو لم تنضج بعد جراء التدخلات الهندسية.
الذريعة المشار إليها تريد مجددا تضليل الشارع والدولة والقرار معا فالإسلاميون ليسوا خطرا على الدولة والديمقراطية ولا يمكنك إعداد منهجية تحديثية يكون شرطها ألا يصّوت الناس لحزب دون آخر أو ألا تقود إلى اختيارات حرة للمواطن.
لا يمكن حل مشكلة الأحزاب الوسطية في أزمة مصداقيتها عند الجمهور عبر حرمان أي حزب من لون آخر من حقوقه بالمنافسة والمشاركة، ومنطق التحديث السياسي أساسه إتاحة فرصة عادلة ومنصفة لجميع التيارات الشرعية وبدون تدخل.

لا يمكن حل مشكلة الأحزاب الوسطية في أزمة مصداقيتها عند الجمهور عبر حرمان أي حزب من لون آخر من حقوقه بالمنافسة والمشاركة

استخدام التفاضل العددي وتراكم الخبرة عند الإسلاميين كحجة لتخويف الدولة مجددا ثم الادعاء بان النظام الانتخابي ينبغي أن يتغير ويتبدل لتخفيف حضور الإسلاميين، هو القول الأكثر خطورة على مسار التحديث السياسي لإنه ينطوي على أكبر كمية ممكنة من التضليل.
الذريعة الثالثة التي تقال في أروقة دعاة إعاقة مسار التحديث السياسي في البلاد هي تلك التي تقول بأن تزويج أصحاب المال برموز الطموح السياسي في بعض الأحزاب، مسألة أدت إلى تشويش المسيرة الحزبية وتشويه سمعة بعض الأحزاب.
هذه الحجة متهالكة لأن الأغلبية الساحقة من التقولات تحت عنوان دور المال في الأحزاب بتأمين بعض المقاعد، مبالغ فيها، وحصلت عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل وبقيت في دائرة الاشتباه الكيدي أكثر من كونها مخالفات حقيقية تعاملت معها السلطات القضائية بموجب تحركات من الهيئة المستقلة لإدارة الانتخابات.
لعب المال السياسي دورا بصورة مؤكدة وهو أمر من التحديات التي ترافق كل مواسم الانتخابات.
لكن من الإنصاف القول بأن ظلما لحق ببعض الأحزاب وخصوصا الوسطية بعد مبالغات المنصات في الحديث عن وقائع بصمة المال السياسي حيث تهويل وتضخيم لمخالفات قد تكون طبيعية في عملية من الصعب «تبرئتها» إذا كان المقصود في المحصلة منها وفيها تقليص مساحات نفوذ برامج التحديث السياسي. ما يريده خصوم التحديث السياسي مرحليا هو الاستناد إلى تلك الذرائع وغيرها للعمل على تسويق محتوى جديد يطالب بتعديلات على المسار عبر تعديل صياغات قانون الانتخاب.
على الطاولة اليوم مقترحات تعديلية تشمل «وقف نمو» عدد مقاعد القائمة الحزبية العامة بعدما سجل حزب معين حضورا لافتا عبرها.
ويعني ذلك التراجع عن منطوق النص الأهم في القانون الذي يتيح التنمية الحزبية، فقد نص القانون على 3 دورات انتخابية يزيد عدد مقاعد الأحزاب فيها بالتدريج وصولا إلى برلمان حزبي بنسبة 100 في المئة.
ما يُبحث حاليا هو وصفة جديدة توقف زحف الأحزاب نحو مقاعد البرلمان ثم تقترح فتح القائمة العامة وتوزيع دماء فارق المقاعد على الدوائر المحلية حتى يهدر دم العمل الحزبي بين قبائل المجتمع خلافا لصياغات هنا وهناك، تتذرع بتصويب المسيرة، بينما نعتقد أن هدفها تقليم أظافر التحديث السياسي ذاته وليس الإسلاميين أو غيرهم أو المخالفات فقط.
إذا لم تتوفر مادة موضوعية تقنع الجميع بالأسباب الموجبة لتعديل النظام الانتخابي يمكن القول بأن رحلة التراجع عن التنمية الحزبية والتحديث السياسي قد بدأت فعلا وبأسرع مما توقعنا جميعا.
التجربة تثبت بأن التيار الإسلامي لديه قدرة على التعامل مع كل أصناف الأنظمة الانتخابية و«يكسب معها كلها» إذا جرت الانتخابات بنزاهة…لذلك فإن الخاسر الأكبر من تسويق التعديلات ضد العمل الحزبي هو الأحزاب السياسية ومسيرة تحديث المنظومة السياسية. ودون ذلك هو «ضحك على الذقون».

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من مدونة الكاتب بسام البدارين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading