الأردن و«التهجير»: العودة للداخل «أسلم»
غياب سردية رسمية مفصلة يترك المساحة لتكهنات، وعلى من يقولون بأن الدولة «تقيس خياراتها» وتتواصل بدبلوماسية مع كل الأطراف الإدراك مسبقا بأن أحدا لا يعترض على ذلك بقدر ما أن الجميع يريد نصا وطنيا واضحا
مسألتان في «غياب الرواية السياسية» تقلقان الرأي العام الأردني وهو يراقب بحرص وشغف وتوتر «الحكاية» بعد تصريحات الرئيس دونالد ترامب، ابتداء من تكرار ما حصل في غزة من «تفجيرات مساكن» في أزقة مخيم جنين، انتهاء بتشريعات الكنيست التي «تعطل مفعول» قوانين أردنية في الضفة الغربية، مرورا بكل سيناريوهات «العجز العربي».
المسألة الأولى هي عدم رصد أي حراكات مطلوبة وبإلحاح لـ«تغيير أدوات» في إدارة الملف المحلي، وعلى صعيد نخب الإدارة العليا حيث انطباع الجمهور يتكرر في عدم معقولية بقاء الأدوات نفسها في الحرب والسلم.
والثانية سر ولغز «الصمت» في السردية الحكومية حيث يبدو أن المزاج الشعبي الأردني قرر أن لا يقف حصرا عند تصريحات وزير الخارجية الصارمة تحت قبة البرلمان ويريد المزيد من الإجابات على أسئلة محددة من بينها: حسنا فهمنا ما يريده ترامب… ما الذي تقوله الحكومة الأردنية بالمقابل؟ كيف نتجهز للمواجهة؟ هل ذاب مسار «التكيف» أم سيطل علينا بشكل هندسي جديد لاحقا أو قريبا؟
تلك أسئلة محرجة بالتأكيد وإصرار البعض على تكرارها ليس تأشيرا على «تشكيك» بالموقف الرسمي لا سمح الله بقدر ما هو انعكاس لعطش الجمهور الملح للحكاية من زاوية «أردنية» مقابل الزاويتين الأمريكية والإسرائيلية.
غياب سردية رسمية مفصلة وشارحة وشاملة يترك المساحة لتكهنات أو تخيلات وعلى من يقولون بأن الدولة «تقيس خياراتها» وتتواصل بدبلوماسية ناعمة مع كل الأطراف الإدراك مسبقا بأن أحدا لا يعترض على ذلك، بقدر ما أن الجميع يريد نصا وطنيا واضحا ومحددا في الاشتباك يؤدي إلى دعم وإسناد شعبي عارم لصمود الموقف الرسمي، وغياب هذا النص يدفع بعض الاجتهادات لتكهنات وقصص وحكايات قد تخالف الوقائع.
غياب التنويع في الأدوات والامتناع عن تشكيل «مطبخ سياسي خبير» وموثوق يناور ويحاور ويفاوض ويحشد الرأي العام من المسوغات التي تدفع الجمهور لإظهار «عدم الارتياح».
الصحيح أن الأشخاص أو الرموز في مجتمع مثل المجتمع الأردني لهم خصال ولديهم سجلات، ووجودهم من عدمه ينطوي على «رسائل» الأمر الذي اعتاد عليه الناس واعتمدته الدولة طوال عقود، وهي تحاصص وظائف وأدوار الصف الأول، وليس سرا هنا أن من يديرون الملفات الآن إما تكنوقراط اقتصادي متخصص بـ«الترقيع» أو بيروقراط إداري مرهق وضجر.
غياب سردية رسمية مفصلة يترك المساحة لتكهنات، وعلى من يقولون بأن الدولة «تقيس خياراتها» وتتواصل بدبلوماسية مع كل الأطراف الإدراك مسبقا بأن أحدا لا يعترض على ذلك بقدر ما أن الجميع يريد نصا وطنيا واضحا
لا قرائن على «طاقم خبرات سياسية أو دولية» عميقة فيما يغيب رجال دولة يعتبرهم الشارع أصحاب خطاب «وطني» في مسألة الصراع مع إسرائيل عن كل مفاعيل الإدارة وصناعة القرار مما يبقي عمليا «الثوابت المرجعية» وحيدة أو يتيمة بلا امتدادات وسط المجتمع، أو يؤدي لإظهار قصور تنفيذي كبير في تكريس تلك الثوابت التي تشكل الضمانة الوحيدة للأردنيين الآن.
ضبط إيقاع المشهد العام مهمة نبيلة لا يمكن إنجازها بدون «حكاية وطنية» ومع «أزمة أدوات مستمرة» وعلى كبار المسؤولين أن يتوقفوا عن توقع نتائج مختلفة ما دام الأداء في إطار الإنشائيات والكلاسيكيات، حيث المطلوب بناء سردية دولة ثم ترويجها وتجنيد مجسات وشرائح ومكونات الشعب معها بطريقة أصولية.
بصراحة لا يكتفي الشعب الأردني بحالة مستمرة من سنوات قوامها أن المايكروفون السياسي بيد رجل واحد هو وزير الخارجية أو بحضن «المعارضة» بالمقابل.
لدى الأردني شوق وحنين بالغان لرؤية «رئيس وزراء» يجيد مهارة «التحدث معهم» ومخاطبتهم في أولوياتهم الأساسية الوطنية بدون التركيز على مداخلات بين الحين والآخر، وظيفتها تمرير قرارات اقتصادية مؤذية أو تبرير تشريعات متشددة في الاتجاه المعاكس للحريات.
لا حاجة لتلك الصور التي تلتقط لرموز وزارية وهي تمارس الملاكمة أو تتوقف بالشارع العام مع طاقم حراس ومرافقين لإظهار إنسانيتها، فيما لا تتحدث مع الشعب ولا حتى بجملة واحدة مفيدة.
لا حاجة لعنتريات وخطابات رنانة، والمطلوب في حده الأدنى حكومة تصارح رعاياها وتحدثهم عن أولوياتها بدلا من التقاط الأخبار والمعلومات التي تخص أهم مصالح وكوابيس الأردنيين من تصريحات البيت الأبيض وإعلام اليمين الإسرائيلي.
الشارع يريد رموزا تفاوض بقدرات عالية على المناورة إقليميا ودوليا وزعامات وطنية تستطيع «إعداد الشعب» لمرحلة الاصطدام بأي «حائط».
أزمة الأدوات قديمة، وكان يمكن التعايش معها طبعا في الماضي، لكن الوقت الحالي أبعد عن الرخاء والاسترخاء ومواجهة «خطط وسيناريوهات الخارج» يبدأ حصرا من عند «العودة للداخل» وإقناع الشارع المحلي بأن الأدوات التنفيذية التي تتحدث باسمه تمثله وتستطيع التفاهم معه.
أزمة غياب السردية الرسمية أيضا قديمة وموروثة لكن طبيعة التحديات اليوم تختلف، ولا تحتمل إطلاقا الاستمرار بقبول هذا العبث الذي يسحب من رصيد الدولة عند أهلها في نهاية المطاف في وقت تعلن فيه إسرائيل حربها على الشعبين الأردني والفلسطيني، ونيتها بأن يصبح العام 2025هو حصرا العام الذي يشهد «تصفية القضية الفلسطينية» وطبعا ودوما على حساب الشعب الأردني ودولته.
بعيدا عن أي تشكيك ننصح بالعودة الفعلية وسريعا للداخل وهندسة المشهد الوطني… تذكروا دائما أن الضرر يتشكل من عند زاويتين: غياب النص الوطني الملزم للجميع ثم «أزمة الأدوات».