الأردن و«المنظومة»: سيناريو «قرية الفرجة»
الإرادة السياسية في سياقها اللفظي ليست مجرد «عبارة أو مقولة» فهي تحتاج لمؤسسات تلتزم وعناصر رسمية وبيروقراطية تمارس وبحذر ودقة
الفارق في المساحة كبير ومرصود ولا يمكن التستر عليه أو الادعاء بعدم رصده ولمسه ما بين النظرية التي تتحدث عن «مراقبة» خطوات وتشكل وتركيب مشهد تحديث المنظومة السياسية في الأردن.
وبين التحول إلى حالة مطلوبة الآن وبإلحاح وبرأي العديد من المخلصين والأوفياء لبرنامج التحديث نفسه بعنوان الانتقال إلى مستوى الاشتباك لحماية مخرجات وثيقة تحديث المنظومة السياسية.
في الحالة الأولى سيناريو «قرية الفرجة» هو الأكثر إلحاقا للضرر سواء بالفكرة النبيلة أو بمضمون ومحتوى وثيقة التحديث التي أصبحت عنوانا لإصلاح سياسي أو تنمية سياسية مطلوبة ومعروضة على الرأي العام.
وتواجه سلسلة من التحديات الصعبة والتصورات السلبية التي تشكك بالنتائج والجدية والإرادة السياسية، سواء بين النخب أو حتى بين المواطنين العاديين.
وهو تشكيك له ما يبرره بالنسبة لأصحابه بسبب أزمة مصداقية طالت كل خطط ووثائق الإصلاح المعلنة سابقا، وإن كان التشكيك والسلبية جزءا حيويا من الحالة السلبية ولا يقودان إلى أي تغيير إيجابي.
الموقف والمشهد في التفاصيل واضحان اليوم والمطلوب قد يكون حقا تحويل المؤسسات الرسمية إلى أذرع وأجهزة تشتبك مع حالة التحديث لخدمتها وحمايتها ولو على الطريقة التركية، عندما كان المطلوب من مؤسسات الدولة العميقة حماية الدولة العلمانية وليس اتخاذ موقف محايد منها أو دعمها لفظيا.
الفارق مجددا كبير بين «مراقبة المنظومة» وهي تتحدث بنوايا فرض قيود والتدخل والانتهاك وبين تحويلها إلى «ترنيمة وطنية وملكية» يجتهد الجميع في العمل من أجلها وحمايتها.
وفيما المطلوب من السلطة إظهار قدرتها على الالتزام بما تقرره الرؤية الملكية حرفيا ثم الانتقال إلى منسوب التفعيل والحماية بحرص يمكن مطالبة الأردنيين بالتوقيت نفسه بإظهار قدر من الصبر والإيجابية وتجنب الإقامة الطويلة في مساكن التشكيك والسلبية لأنها إقامة غير منتجة ولا يستفيد منها أحد.
نعرف أن موجات تحديث المنظومة السياسية وحتى في ظل الملاحظات التي كررناها عليها، سواء بما يتعلق بعدم توفر الحاضنة الاجتماعية أو في الأداء المعاكس للمضمون تحتاج إلى انتفاضة رسمية وبيروقراطية تعيد إنتاج المشهد، وتجتهد لإثبات أن المؤسسات والأجهزة تسهران على التطبيق وضمان حسن التنفيذ بمعنى أن القوة الخشنة بيروقراطيا تستعمل هنا لتثبيت الرؤية وتعزيزها.
الإرادة السياسية في سياقها اللفظي ليست مجرد «عبارة أو مقولة» فهي تحتاج لمؤسسات تلتزم وعناصر رسمية وبيروقراطية تمارس وبحذر ودقة
وهي انتفاضة على شكل حراك بيروقراطي يؤكد على مضامين التحديث ويخدمها بنفس الوقت ويبدد الكثير من ذخيرة التشكيك والسلبية والعدمية التي يشتكي منها كبار المسؤولين لكنهم يكثرون من التضجر والشكوى والانتقاد، دون تقديم أدلة للرأي العام يوميا على أنهم معنيون بهذا التحديث وبمخرجاته وهي مخرجات لافتة جدا للنظر، لو توفرت لديها النوايا الحسنة والأهم لو توافرت لها القدرة على اتخاذ قرار بتصويب المسار والالتحاق بالرؤية المرجعية التي يبدو أنها «جدية» هذه المرة لكن تلك الجدية مرهونة بكيفية تصرف المؤسسات والقطاع العام.
باختصار نريد حالة بيروقراطية ورسمية وحكومية وحتى أمنية تدعم المنظومة حيث المؤسسات الرسمية، وهي الأكثر قدرة على التحرك برشاقة. والأكثر إنتاجا للأدلة والبراهين في وجدان المجتمع عليها أن تتحرك لحماية المنظومة بدلا من التفرج عليها أو القول لفظيا بأنها تدعمها وبدلا من التدخل الخفيف هنا وهناك في التفاصيل بهدف ضبط الإيقاع العام، وتجنب أي مفاجآت في توقيت حساس للبلاد ومصالحها.
ولا أحد يلوم أحدا في الجهات الرسمية في حالة التدخل التي لا يمكن أنها مفهومة أو مبررة في العديد من التفاصيل. لكن نريد اليوم تدخلا بالمعنى الإيجابي وتوجيه رسائل عميقة للمؤسسة الرسمية تؤكد بأن الكادر أو المنظومة البيروقراطية تنتقل حقا في إطار الإصرار على تنفيذ الرؤية السياسية المطلوبة من مرحلة الاشتباك والتفرج والحياد إلى مرحلة تقديم أدلة وقرائن على حماية المنظومة وحماية فكرها ووثيقتها ومخرجاتها. وبطريقة سلسة وناعمة تجعل من عملية التحديث مسألة مسلكية وثقافية في أجهزة ومؤسسات الدولة قبل انتقالها إلى المجتمع، لأن الحديث أيضا بالمقابل عن نقص الحواضن الاجتماعية في السياق لا يقتصر على غياب تلك الحواضن عن المجتمع. ولكن أيضا تظهر الامتعاضات والسلبيات والملاحظات غير الجدية بكثافة من الحاضنة الاجتماعية للرموز والأدوات العاملة في المنظومة الرسمية، وهو وضع يفترض أن يحسم أنه مادام القرار قد اتخذ مرجعيا ويحتاج لمراجعة.
مشكلة برنامج تحديث المنظومة الأساسية في النخب الرسمية والبيروقراطية، وليس في المضمون ولا في الشكل ولا في تطلعات المشاركة الشعبية خلافا طبعا للإشكالية المتعلقة في وجدان الناس الذين ثقبوا آذانهم في الماضي عند العديد من المبادرات الإصلاحية قبل انكشاف غياب الإرادة.
الإرادة السياسية في سياقها اللفظي ليست مجرد «عبارة أو مقولة» فهي تحتاج لمؤسسات تلتزم وعناصر رسمية وبيروقراطية تمارس وبحذر ودقة وهي أيضا مجموعة رموز وأدوات منتشرة في كل الحلقات تدافع وبجرأة وبروحية الجندي وأحيانا المغامر عن مضامين التحديث السياسي فالأردنيون معنيون بمئويتهم الثانية أيضا وبإحساس مسؤول لا يقل عن أي سياسي أو شخصية رسمية بدون مزاودات وتزويق لفكرة البقاء في العتمة.