اراء و مقالات

صاروخ «غراد» فتح ملف «أوجاع الجيوسياسي» .. كيف تصمد «استراتيجية» الأردن في «النأي بالنفس»؟

عمان – «القدس العربي»: سقوط صاروخ غراد مجدداً بالقرب من بلدة الموقر الصحراوية الأردنية اختبار جديد سياسياً على الأقل وليس أمنياً للجملة التكتيكية والدبلوماسية التي قررتها الحكومة الأردنية عملياً بعد الليلة الشهيرة في شهر نيسان/أبريل الماضي، والتي أسقطت فيها الدفاعات الأردنية العديد من المقذوفات والطائرات الإيرانية التي اخترقت لأجواء.
شعر أهالي مدينة الزرقاء المكتظة بالسكان بصوت انفجار ضخم.
المسألة معتادة قرب الحدود الوعرة مع سوريا منذ سنوات شرقي البلاد.
لم تحصل لا بلبلة ولا مشكلات، فيما القوات المسلحة أصدرت بياناً مقتضباً شرحت فيه للأردنيين أسباب صوت انفجار صارخ غراد الذي سمعوه.
لم يعرف الرأي العام بعد إلا أن صاروخاً من طراز غراد سقط في أرض صحراوية خالية تعتبر قريبة من نقاط التماس الحدودية مع العراق وسوريا وجزئياً مع لبنان.
لكن ذلك الصاروخ أعقبه بيان سيادي واضح وحاد الملامح، فكرته أن القوات المسلحة ستسقط أي مقذوف أو جسم طائر يحاول اختراق الأجواء الأردنية وبصرف النظر طبعاً عن ماهيته وهدفه والجهة التي أطلقته.
سياسياً، لا يعني ذلك أن إيران ومجموعاتها المسلحة في العراق وسوريا لا يستطيعان استخدام الأراضي والأجواء الأردنية لضرب إسرائيل فقط، بل يعني بمدلول العبارات في البيان العسكري أن إسرائيل أيضاً من جانبها لا تستطيع استخدام الأجواء الأردنية في أي عمل حربي مضاد.
ذلك ينسجم مع المعيار الأساسي في البيان الرسمي، وهو “إسقاط أي طائرات أو صواريخ تحاول اختراق السيادة الأردنية” وتوفير الأمن والأمان للأردنيين، وينسجم مع ما كان قد صرح به سابقاً وزير الخارجية أيمن الصفدي عندما قال إن بلاده ستسقط أي مقذوف طائر ومن كل الجهات.
طبعاً، تلك مهمة سيادية مرسومة بدقة على مقدار الموقف السياسي والمرجعي للدولة الأردنية، وإن كانت صعبة ومعقدة عملياتياً، ليس لأن جاهزية الأردن فعالة في كل حال، ولكن لأن الجدل يتواصل ويتسرب هنا وهناك مادام الصراع مشتعلاً بعنوان “القواعد العسكرية الأمريكية في المملكة”.
المرجح أن الأردن قرر استراتيجياً سياسته باتجاهين:
الأول هو التحرك الدبلوماسي الثقيل لمعالجة أزمة قطاع غزة في أسرع وقت ممكن، تجنباً لخيار التصعيد الإقليمي والمساس بأمن واستقرار المنطقة.
والاتجاه الثاني هو الحرص في حال إخفاق المسارات السياسية والدبلوماسية على سياسة النأي بالنفس جغرافياً وسيادياً عن الصراع بين إسرائيل والإيرانيين إذا ما اندلع واتخذ أكثر من شكل، الأمر الذي اعتبره السياسي الدكتور جواد العناني مبكراً وهو يناقش مع “القدس العربي” معادلة الاشتباك انعكاساً حيوياً وطبيعياً لفهم الأردن لمصالحه على أساس القناعة بأن المملكة الأردن لا يريد أن تتحول سماؤه وأرضه إلى مساحة صراع بين الإيرانيين والإسرائيليين.
يحاجج العناني وآخرون من الخبراء بأن قواعد الاشتباك الأردنية هنا واضحة، وفهمت “القدس العربي” من الوزير الصفدي سابقاً بأن كل الأطراف في الصورة، وتم إبلاغها.
لكن خلف الستائر، تحاجج عناصر الثقل في دوائر القرار الأردنية بأن معادلة النأي بالنفس والجغرافيا سيادياً تمثل الدرب الاحتياطي في حال استسلام الإقليم لصراع مسلح قد يكون طويل الأمد، خلافاً لأن عمان هنا حصراً تراهن على فهم أطراف الصراع للأسباب والمبررات التي تدفع باتجاه الحرص وبأي ثمن على عزل الجغرافيا الأردنية عن سياق الصراع الإسرائيلي الإيراني.
ما يطرح في السياق خلف الكاميرات هو رهان على أن إسرائيل وحتى في اللحظات الحرجة عسكرياً، ينبغي ألا تفكر لحظة بإحراج الأردن في ملفين بصورة محددة، تعتبرهما عمان بمثابة خطوط حمراء، وهما: أولاً، تهجير أهل الضفة الغربية شرقاً. وثانياً، أي سيناريو لضرب إيران أو العراق وسوريا انطلاقاً من الأراضي أو الأجواء الأردنية.
يقول الأردنيون إن تل أبيب لديها خيارات إذا ما فتحت المعركة على مصراعيها مع إيران ولبنان ثم العراق وسوريا، ويراهنون على أن موتوري الحكم الإسرائيلي يفهمون مسبقاً أن عواقب إحراج الأردن سيادياً هنا ومن جهتهم أو من جهة القواعد العسكرية في الأراضي الأردنية، قد تكون وخيمة ليس فقط لأن الأردن سيرفض أي تصرفات خارج حساباته السيادية الحساسة هنا، ولكن لأن أي تصرف غير مسؤول يخترق قواعد الاشتباك المرسومة قد يخفف من الجهد الأردني في منع الإيرانيين ومجموعاتهم في العراق وسوريا من السعي للرد والثأر عبر الأراضي الأردنية.
أبلغ الإيرانيون مبكراً في الواقع أن عمان ترفض ترديد شعار “افتح الحدود” وشعار “تحرير فلسطين انطلاقاً من الأرضي الأردنية” الذي تردده جماعات شيعية موالية لطهران هنا وهناك.
وأبلغ الإيراني بوضوح أيضاً أردنياً بأن العكس يمكن أن يحصل؛ فإحراج الأردن بالحرص على المساس بإسرائيل عبر أراضيه، قد يحرر القواعد العسكرية الأمريكية من الحسابات التحفظية الأردنية، وقد يدفع إسرائيل للرد أيضاً.
تلك مجموعة رسائل أرسلت لأطرافها بعدما تقررت استراتيجية النأي بالنفس الأردنية والحرص على عدم اختراق قواعد الاشتباك التي صيغت بعناية، بمعنى عزل الجغرافيا الأردنية عن الصراع مادامت أطرافه مصرة على إكمال مشوار التصعيد.
الأردن لديه القدرة اللوجستية والمهنية للالتزام بالقواعد التي قررها.
وسياسياً، إذا ما انفتحت المعركة أكثر على خيارات التصعيد، فقد بقي رهان عمان على أن تفهم كل من تل أبيب وطهران ظروفها ودقة حساباتها.
وهو ما يحيل الجغرافيا الأردنية هنا في المصالح الجيوسياسية إلى مكسب وموقع مبادر، فطهران في النتيجة تساهم في تحديد رد الفعل الأردني إذا ما اقتربت عملياتياً من محاولات المساس بإسرائيل عبر الأردن.
ولدى تل أبيب نفس الرسالة، في المقابل مضمون الأردن السياسي آمال بتجنب الإحراج من الطرفين مع الحرص دفاعياً وعسكرياً على معالجة أي اختراق بكفاءة.
طبعاً، تلك تبدو معادلة معقدة، لكن حساباتها هي التي أوفدت قبل أسابيع الوزير الصفدي إلى طهران، ثم دفعت باتجاه اللقاء في نيويورك مع الرئيس الإيراني.
وهي الحسابات نفسها التي دفعت في الواقع الوزير الصفدي نفسه، رغم كل ما يحصل من تناقض وصدام مع الإسرائيليين إلى التصريح علناً مؤخراً بأن بلاده ستحافظ على اتفاقية وادي عربة لأن لها وظائف أساسية لاتزال قائمة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

اكتشاف المزيد من مدونة الكاتب بسام البدارين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading