نخب الأردن: من أجل الإصلاح لا انتهاكه
كل المطلوب استخدام الأوراق الممكنة والمقدور عليها بدءا من توقف الإنكار وانتهاء بإجبار كبار الموظفين في الحد الأدنى على التحدث بنفس اللغة وإطلاق عملية ولو صغيرة ضمن مفهوم دولة تسهر من أجل الإصلاح
أي سؤال سياسي أردني بصيغة: هل الحاجة ملحة لطاقم جديد يتولى الأمور ويديرها؟ يصطدم فورا بسؤال مختلف: ماهي هوية الطاقم المطلوب ومن أين نستورده؟
في لغز النخب والصالونات ومراكز القوى قيل يوما بأن البلاد لا تستطيع استيراد الوزراء من الصين.
وقيل دوما بأن «ما في الطنجرة تخرجه المغرفة».
والحديث طبعا عن متوالية هندسية مصابة بأزمة عتيقة وقديمة اسمها أزمة الأدوات حيث لا صناعة حقيقية للبدلاء والسيناريوهات البديلة وحيث محاصصة يدافع عنها المجتمع قبل الدولة كانت وستبقى مزعجة.
وحيث شخصيات جديدة تنضم لنادي الإدارة وسرعان ما تضرب بالسوط القديم فتبدأ سلسلة كبيرة من الخصومات والتنازلات حتى يكاد يتغير شكلها ليصبح تراثيا ويتبدل مضمونها ليصبح تقليديا، لأن جزءا عمليا من أزمة صناعة القرار السياسي له علاقة بتزاحم البنية الاجتماعية هنا وهناك على تلك الحصص التي توفرها الدولة لمكونات المجتمع في التمثيل، مادامت البرامج المهنية خارج الطاولة والكل يبحث عن امتياز الوظيفة والدور ويجد في مكونه المناطقي والاجتماعي وأحيانا العشائري ما يدعم طموحاته الشخصية.
بكل حال الأمل منعقد الآن بأن تتغير الصورة، لكن الحصول على نتائج مختلفة خارج التوقع الراشد إذا كانت المدخلات في الماكينة هي تلك نفسها التقليدية.
لا تستطيع التقدم بالديمقراطية طبعا فقط بالحديث عنها. ولا تستطيع تحشيد مجموعة أشخاص يرتدون ثوب الديمقراطية على شكل ملابس العيد مؤقتا لكي تكرس تجربة.
لا يمكنك في أبسط الأحوال تثبيت أركان الإصلاح والتحديث عبر رموز وأدوات ليست تحديثية وليست إصلاحية أصلا ولن تكون. نعم أزمة الأدوات معضلة حقيقية في بناء وهندسة المشهد الوطني والداخلي.
لكن السؤال هو: ما الذي ينبغي أن يفعله صانع القرار بعد تلك الورثة الكبيرة من تقاليد مستقرة وقوانين غير مكتوبة تحكم الاعتبارات ومحاصصات اضطرارية لإجراء ولو شكل من التوازن؟
سؤال يطرحه كل العقلاء بصيغة استنكارية وليست استفهامية عند انتقال أي نقاش للمادة الدسمة.
لكن هؤلاء العقلاء عليهم التنويع في صيغة السؤال لأن مسألة التغيير الإصلاحي الحقيقي تبدأ ليس من محطة التوقف عن إنكار المشكلات فقط بل من تلك المحطة التي تتوقف فيها دوائر صناعة القرار عن توقع نتائج مذهلة أو نشطة أو إيجابية باستخدام وسائل وتقنيات قديمة وكلاسيكية أو نظريات تصلح اليوم للمتحف حتى يحتفل فوقها الغبار باسترخاء.
كل المطلوب استخدام الأوراق الممكنة والمقدور عليها بدءا من توقف الإنكار وانتهاء بإجبار كبار الموظفين في الحد الأدنى على التحدث بنفس اللغة وإطلاق عملية ولو صغيرة ضمن مفهوم دولة تسهر من أجل الإصلاح
الموقف صعب ومعقد فلا مؤسسات القرار لديها وصفة منتجة لتنميط مسألة النخب والأدوات والتحول إلى مدرسة أو خلاصة في إنتاج صناعة النخب والقادة في بلد ظروفه الجيوسياسية خارج السيطرة والتحكم، وتمكن من التعايش بعبقرية مع صراعات المنطقة والإقليم ونجا عشرات المرات خلال عقود من مطب هنا أو حرب هناك ومن كمين هناك أو مؤامرة ودسيسة هنا. ولا الناس مقتنعون بالمقابل بأن الشخصيات التي تتحدث معهم باسم التحديث والإصلاح والتغيير اليوم قادرة على إنتاجه وإنجازه لا بل يصنف الشارع هؤلاء دوما باعتبارهم جزءا حيويا وفعالا ونشطا من الأزمة التي تراكمت حتى أوصلت الأردنيين جميعا إلى الصيغة التي يقرها رئيس مجلس الأعيان المخضرم فيصل الفايز: «نعم جبهتنا الداخلية ضعيفة».
لا يمكن لدوائر القرار استيراد النخب والأدوات من الصين. ولا يمكنها تحويل المواطن فجأة إلى كائن ديمقراطي في مجتمع ذكوري بطريركي تقاليده الاجتماعية والتربوية أقوى من القوانين في الكثير من المفاصل.
لا يوجد في البيوت ومع الأطفال تربية ديمقراطية.
وكل مواطن أردني يستذكر شكل ونوع العصا التي كان مدير مدرسته في طفولته يحملها. وسط هذا الضجيج ما الذي يمكن تحديثه بصورة مركزية؟
أشياء كثيرة لا تستطيع السلطة فعلها بقرار.
لكن القرار بالمقابل هو وحده الذي يستطيع تأسيس بداية عملية منهجية وطنية شاملة وبالشكل الصحيح وأزعم أن هذا ما تفكر به دوائر القرار الأساسية عندما أطلقت مسار التحديث الثلاثي فلا الدولة ولا المواطن يمكنهما الاشتباك مع المستقبل بالطريقة القديمة.
والمنظومات البيروقراطية التي تخشى التغيير أو لا تحبه من الطبيعي أن تبتدع وبعبقرية فذة ملحوظة كل أصناف الهندسة حتى تأمن شر الشيطان الكامن في التفاصيل، وحتى تبقى البلاد من زاويتها على مسار بلا مفاجآت غير سارة. مجددا ودائما لا يمكن إعداد طبق العجة بدون تكسير البيض.
لا أحد يريد قادة ميدانيين من الصين ولا وصفات مستوردة ولا ديمقراطية خارج السيطرة أو إصلاحا مبالغا فيه. كل المطلوب استخدام الأوراق الممكنة والمقدور عليها، بدءا من توقف الإنكار وانتهاء بإجبار كبار الموظفين في الحد الأدنى على التحدث بنفس اللغة وإطلاق عملية ولو صغيرة ضمن مفهوم دولة تسهر من أجل الإصلاح وليس من أجل انتهاكه والتدخل به والعبث في جيناته ومفاصله الهندسية. ذلك ممكن وبسيط حتى نمضي قدما.