هل فقد الأردن تأثيره في «معادلة إسرائيل»؟ ربط «منظومة الأمن العربي» بالكيان يزيد التعقيدات

عمان- «القدس العربي»: الإجراءات الأحادية التي تتخذها السلطات الإسرائيلية في القدس وعلى الحدود الأردنية في الأغوار تحديداً، بدأت تختبر ما تبقى سياسياً وشعبياً وإعلامياً من مصداقية جدوى وإنتاجية بقاء عملية السلام والتمسك فيها، الأمر الذي لا يخفي مسؤولون كبار الآن أنه يشكل تحدياً ملموساً وكبيراً للدولة الأردنية وهي تلجأ إلى تدوير الزوايا والمناورة والمبادرة هنا وهناك، أملاً في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية ولو بنظام القطعة والتقسيط.
اشتكى سياسيون كبار من بينهم وزير الخارجية الأسبق الدكتور مروان المعشر، علناً، من غياب استراتيجية ووطنية شمولية تأخذ بالاعتبار سلسلة الانقلابات الإسرائيلية على الذات أولاً، وعلى عملية السلام ثانياً، ثم على مصالح الأردن العليا ثالثاً.
حتى وزير الخارجية أيمن الصفدي، تحدث على هامش نقاش مع «القدس العربي» سابقاً، عن الإرهاق الناتج عن إعادة ترتيب سلم الأولويات بين الحين والآخر ضمن معايير الاشتباك مع المستجدات التي يفرضها إيقاع اليمين الإسرائيلي وعدوانه في القطاع والضفة. وأصبح ذلك عبئاً يومياً على نظام الأولويات الأردني.
وما يراه الخبير الاستراتيجي والعسكري البارز نضال أبو زيد، على هامش نقاش مع «القدس العربي» هو سلسلة خطوات لا تتعلق بانتهاكات فقط لاتفاقية وادي عربة، بل إجراءات على الأرض وفي الميدان، تكرس الانقلاب الإسرائيلي، وتتطلب مقاربات حادة ومختلفة وجذرية لأنها بكل بساطة تنتج تحديات استراتيجية وأمنية يومية لا مناص من التعاطي معها.
وجهة نظر السفير والدبلوماسي الأردني المخضرم الدكتور موسى بريزات، سمعتها «القدس العربي» مرتين بعنوان التحذير من أن حرص الأمريكيين دوماً على ربط الأمن القومي العربي عموماً بالأمن الإسرائيلي لم يعد خياراً يمكن بعده الاستنتاج بأن المصالح الأساسية الأردنية والعربية مضمونة.
ما يقترحه بريزات هو مناقشة ثم تفكيك هذه العلاقة بين المنظومات وتطوير مقاربة عربية وليست أردنية فقط، أكثر قراءة للواقع.
وفي المقابل، أي مقاربة في هذا المسار ينبغي أن تأخذ باعتبارها، أردنياً على الأقل، مجموعة العناصر المربكة جداً التي نتجت عن تغييرات عميقة في منظومة الأمن الإقليمي العربية، والتي تبدو في بعض أجزائها مع بعض الدول العربية الشقيقة للأردن مؤهلة للنمو والزحف والتطوير والتطور على حساب المنظومة الأردنية المقابلة، الأمر الذي ينتج إرباكات لا يستهان بها عندما يتعلق الأمر بإعادة تدوير الزوايا الحرجة.
أي انتقال إلى مستوى أعمق في التحليل قد يتطلب مراجعة عميقة أكثر، اقترحها في الواقع المعشر وآخرون طوال الوقت، تؤسس لمعادلة مضمونها مراجعة الاعتماد على المواصفات والمقاييس القديمة في الارتباط الأردني بإسرائيل، تلك التي أقيم السلام معها ولم تعد موجودة الآن.
أدوات القياس المنهجية قد لا تعود منتجة إذا ما اعتمدت حصراً على ما يسمى بالعقائد البيروقراطية القديمة المنتجة في مرحلة ما بعد عام 1994 والتأثيرات المحتملة في محور الدور والوظيفة هنا.
النقاشات في هذا المحور والمهم والساخن، تبرز في مجالسات النخب في عمان أكثر من مداخلات وسائل الإعلام.
والقناعة تزيد بأن الاحتفاظ بتوازن ما مع إسرائيل المتوحشة الدموية الآن أصبح بحد ذاته عبئاً على مصالح الأردن، لا بل تحدياً كبيراً، وفقاً للرأي الذي سمعته «القدس العربي» أيضاً من رئيس الوزراء الأسبق والخبير طاهر المصري. الأردن في مستجدات المشهد الإسرائيلي لم يعد له تأثير جوهري على العمق الإسرائيلي كما كان في الماضي.
وما يلاحظه المحلل السياسي عريب الرنتاوي، أن هوامش التأثير الأردني في المعادلة الإسرائيلية تراجعت وطالت التأثير في أي أطراف أخرى في العالم أو الإقليم مؤثرة في الكيان أو كانت كذلك في الماضي.
الانطباع هنا زاد مؤخراً بأن عناصر التأثير الأردنية تفقد جاذبيتها، وأن سردية الرهان على شراكات الماضي مع العمق الإسرائيلي والمنظومة العميقة لدى الكيان لم تعد في الواقع ضامنة لمصالح الأردن، ليس فقط لأن يمين تل أبيب التهم ويلتهم حقاً وفعلاً كما قالت تقارير نوقشت في اجتماعات سيادية أردنية مؤسسات العمق الإسرائيلي العسكرية والأمنية، ولكن لأن ذلك اليمين طرد العلمانيين ودعاة الاعتدال وأنصار الشراكة مع الأردن من كل معادلات القرار الإسرائيلي تقريباً، لأن الولايات المتحدة ذاتها تظهر مرونة في غير مكانها تجاه اليمين الإسرائيلي ومشاغلاته.
الأردن هدف لليمين الحاكم في تل أبيب، وهو هدف علني وإعلامي وإجرائي على الأرض.
ذلك يفرض إيقاعات وتداعيات، خصوصاً في نقاشات الأردنيين؛ لأن غياب التأثير عند الإسرائيليين والأمريكيين قد يبرر التقاط ما تيسر من المساحات المشتركة مع الدول الأوروبية عملياً، ويعزز القناعة بأن العلاقات مع تل أبيب لا تقف عند حدود التراجع وأحياناً العدمية، بل وصلت إلى مستويات تصعيد من الطرف الآخر قد تفرض حالة تحد استراتيجية عميقة وغير مسبوقة، لا يوازيها إدارياً ولا بيروقراطياً حتى الآن أي جهد تراكمي ملموس خارج نطاق إدارة العلاقة، بدون تحقيق مكاسب وعلى أساس الخروج بأقل قدر من الخسائر.
وهو ما يحصل عملياً -بتقدير خبراء ومراقبين كثر- على أكثر من صعيد، ابتداء من ملف القدس والوصاية، مروراً بعبء التطبيع والاحتفاظ بالعلاقات، وانتهاء بالجدار الإلكتروني الجديد الذي سيقيمه الإسرائيلي على طول 97 كيلومتراً مستنداً إلى حزمة من الأساطير والأكاذيب.
يزيد العبء الإسرائيلي الضاغط على العصب الأردني الأساسي والحيوي في ظل ضعف وتراجع نفوذ الأردن في بنية مجتمع الضفة الغربية أيضاً جراء سلسة من الرهانات التراثية التي لا تخدم بصمات التأثير الأردني، وتزيد الإشكالية أكثر في ظل إقرار الدوائر والأوساط السياسية في عمان بأن وضع البيض في سلة السلطة الفلسطينية فقط أصبح سلوكاً ينفرد به الأردن حتى دون غيره من العواصم العربية.
طبيعي القول إن هذه الاستراتيجية في جزئية السلطة المتهاوية عملياً تحرم الدور الأردني من بصمة عميقة مع بقية القوى في المعادلة الفلسطينية، وتكرس الغياب إلى حد لا يمكن أنكاره في واقع السردية التي يبنيها الشعب الفلسطيني الآن بعد 7 أكتوبر وتداعياتها مع ما يختلط فيها من ألم ودم.