الأردن و«التسعير» السعودي
عندما يتعلق الأمر بثنائية «المال والكرامة» لا مجال للاعتقاد أو التوهم ولو للحظة واحدة أن الأردني ـ أي أردني ـ يمكنه أن ينحاز للمال ويتساهل قليلا بمسألة «الكرامة».
أحسب أيضا أن أي مواطن «عربي» في أي بلد عربي يتخذ نفس الاتجاه عندما تحاول أي قوة طاغية للمال إفقاره للاعتداء على كرامته الوطنية والقومية.
وفي حال الإصرار على «أردنة» النقاش هنا لابد من التوقف مليا عند مستويات الانسجام غير المسبوقة التي تظهر دوما في بلد كالأردن تتخذ فيه قيادته وحكومته مع شعبه بالتوازي مواقف تنحاز بدون نقاش للكرامة على حساب المال الذي لا يمكن إسقاط أهميته بكل الأحوال.
يعرف الأردني البسيط قبل نخبه وقياداته ورموزه أن بلاده قيد الحصار والتضييق.. الشقيق ينكره والشريك يحاول الضغط عليه والصديق يتجاهل مشكلاته والجار في بعض الأحيان يتآمر على حصته من المسؤولية التاريخية والكرامة الوطنية.
يعرف أصغر أردني أن «مملكته» تتعرض في هذه المرحلة من عمر الإقليم وتقلباته لأبشع عملية إبتزاز على الأجندة الاقتصادية بهدف تمرير مصالح دولية وتسويات اقليمية على حساب الكرامة الوطنية.
وأقولها بصراحة ووضوح فأنا أقابل مئات الأردنيين بحكم مواطنتي وعملي يوميا ولم أقابل ولا حتى أردنيا واحدا يعتد به وبعقله ورشده يقبل القسمة على إثنين عندما يتعلق الأمر بالحق الفلسطيني أو يروج للمساومة على حساب المبادئ أو يحاول تزيين تلك السيناريوهات المشبوهة التي تتسبب بالضغط على الاقتصاد الوطني أو تحاول تهميش الأردن وافقاره وإبقاءه على الحافة.
ولم أقابل أيضا أي أردني بسيط يمتنع عن فهم ما يجري ولا يصفق لدولته وسلطته ونخبه وهي تتخذ مواقف قومية مبدئية سواء عندما يتعلق الأمر بملف القدس أو القضية الفلسطينية.
وأتفق مع ما قاله يوما الدكتور مروان المعشر لأحد أمراء الظلام الصهيوني في واشنطن عندما تحداه أن يجد فلسطينيا واحدا يمكن أن يوافق معه على إقامة دولة فلسطين شرقي نهر الأردن الموحد العظيم بحكم الاعتبار الديمغرافي.
بالمقابل أخفق دوما في مقابلة مسؤولين وسياسيين رسميين يمكنهم الإرتقاء ولو قليلا إلى موقف الشارع الذي لن تؤتى بلادنا منه بكل الأحوال.
ثمة في الحالة الأردنية اليوم درجات عالية من الانسجام في المواقف تجاه القضايا الكبرى بين الناس والدولة.
رفعت القيادة الأردنية فعلا برنامج «الاعتماد على الذات» بعدما أصبح المال العربي وتحديدا السعودي أداة للإبتزاز لصالح اليمين الإسرائيلي وبرنامجه في المنطقة والإقليم.
يحاول المال الخليجي اليوم «تسعير» كل شيء وماكينته بوضوح تستهدف الثوابت على مستوى الأمة وقضيتها المركزية في فلسطين
يحاول المال الخليجي اليوم «تسعير» كل شيء وماكينته بوضوح تستهدف الثوابت على مستوى الأمة وقضيتها المركزية في فلسطين.
ومن الواضح لي ولكل المراقبين أن أولية الحرب على إيران مثلا تسببت بانتقال التسعير إلى «سعار سياسي حقيقي» يحاول تحت وطأة غرور المال فقط استلهام تجربة الرئيس بوش الأبن وهو يقول يوما.. «من ليس معنا ضدنا».
الأردني على المستوى الرسمي قرر الصمود أحيانا بخجل وأحيانا بدونه في المقاربة المعاكسة للتسعير والسعار إياه.
هذا موقف نبيل وفارس وقيمي ومرجعي لا يمكن إنكاره لأن ما هو على المحك اليوم ليس سيناريو سياسيا أو فكرة يمكن تبديلها وملاعبتها بل ما هو على المحك كرامة الأمة ومصالح الأردني قبل الفلسطيني خصوصا بعد ظهور طبقة من وزراء الخارجية العرب الذين يحاولون «التبرع بفلسطين» وهم لم يدعموها يوما وضمن اندفاعهم في المقارنة التي تزعم أن الخطر الإيراني أهم من القضية الفلسطينية.
على المحك أردنيا بهذا المعنى وجود المملكة وفكرتها الفيزيائية ومصالحها العليا، الأمر الذي يفسر جرأة الموقف الذاتي المعلن وغير المعلن كما يبرر الدفاع عن الذات الوطنية والبقاء ضمن سلسلة مقاسات ومقاربات تحاول عدم التورط وتنشغل ـ للأسف الشديد ـ بمغامرات الشقيق التي تملأ الدنيا وتشغل الناس هنا وهناك بدلا من الانشغال بالخطر الأكبر على الجميع الذي يمثله العدو الصهيوني واحتلاله الاستيطاني.
بمعنى آخر لا يفهم من يبالغون في الضغط على الأردن ويحاولون إلحاقه بمنظومة التبعية لليمين الإسرائيلي ومشاريعها ضد إيران وغيرها أن الأردني مليء أصلا بالخذلان الإسرائيلي وأنه مفعم بالمؤامرة ويخشاها ويعاني ويتألم من إضطراره يوما لتوقيع إتفاقية وادي عربة وبالتالي يعيش الأردني أصلا تحت ظل سيف اسمه عملية السلام ولا يحتاج للمزيد من السيوف المسعورة التي تريد منه الوصول إلى ما هو أبعد من السلام والتعايش باتجاه التأسيس لـ«بيع القدس» والتمهيد لدولة فلسطينية على ساحل بحرين هما الأحمر والمتوسط ـ أي في غزة حصريا ـ.
لا يملك الأردني الرسمي خيار إعلان المقاومة.
لكنه اتخذ قراره المبدئي أن لا يشارك في الحفلة إياها ويتحمل اليوم الكلفة.
الشعب الأردني لا يمكنه أن يكون إلا خلف مؤسساته في مثل هذه المواجهة بكل ما تتطلبه من «صبر واحتمال» شريطة أن تطبق السلطة بعد الآن قواعد «اللعب النظيف» وتتوقف تلك الألعاب الصبيانية والمراهقة على المستوى الحكومي.
الخطر كبير وحقيقي على الدولة قبل الناس.
وبكل بساطة على الدولة الأردنية أن تسمح للمواطنين بالدفاع عنها وتمكينها من الصمود.. وهي تعرف تماما المقصود والدرب إلى ذلك.