الأردني «الاستشهادي» وثلاثية «كلا»
يمكن ببساطة وبدون تعب ملاحظة المؤسسة الأردنية وهي تجتهد في تأكيد ثلاثية «كلا» التي أصبحت بمثابة رسالة صارمة للداخل والخارج وهي «كلا للتوطين… وللوطن البديل… وللتنازل في ملف القدس».
قالها الملك عبدالله الثاني مرتين على الأقل في غضون أسبوعين ، الأمر الذي يعني ضمنيا أنه ثمة ما استدعى القول وتأكيده بالرغم من أن المسألة تحصيل حاصل وأن المهمة المستحيلة اليوم تتمثل في إيجاد ولو أردني أو فلسطيني واحد فقط يمكنه الموافقة على «وطن بديل» في الأردن.
ما استدعى التأكيد على ما يفترض أنه «مؤكد» هو حصريا على الأرجح ارتفاع هواجس التوطين والتفريط بالقدس بالتناغم مع الأزمة الاقتصادية الحادة داخليا وقرب الإعلان عن صفقة تحمل اسم القرن وما يتسرب منها من مطبخ ترامب ـ كوشنر ـ نتنياهو.
وتلك هواجس نتج عنها نمو ظاهرة «التشكيك» التي ارتفعت أسهمها في نقاشات الأردنيين في الأيام الاخيرة واستدعت إظهار الانزعاج الملكي أيضا.
ما نريد مناقشته هنا هو ظاهرة التشكيك ومسوغاتها ومبرراتها بعد شكوى مرة لعامين من الشائعات.
«التشكيك» تماما مثل «الشائعات».. كائن هلامي لا يمكن ضبطه متلبسا ولا إلقاء القبض عليه.
الاشاعة تحارب بـ: أولا ـ الحقيقة.
وثانيا ـ المهنية في الأداء وليس عبر فتح المجال أمام رموزها وأبطالها لحوارات ونقاشات مع مركز القرار.
مواجهة التشكيك صعبة ولها كلفة لكن لا يمكنها أن تكون «أمنية» فالأمني هنا يخفق تماما لأن «المتهم» في هذه الحالة «غير مجسد» ولأن اعتقال أو محاكمة عشرات الآلاف من الأردنيين « غير ممكن» وعلى أساس الانتشار الواسع في لغة التشكيك وسط مسوغات ومبررات تسمح به أصلا من بينها الاحباط الاقتصادي والإفلاس الحكومي وأزمة المصداقية بين الناس والسلطة.
أول خطوة حقيقية في مواجهة تداعيات التشكيك هي بمعرفة أسبابه الأصلية والعميقة … كيف ولد ولماذا، وعلى ماذا يتغذى؟
صدرت دعوات لتحريك الأذرع الأمنية والقانونية لاصطياد المشككين في إثبات جديد على قصور مبادرات العلاج.
مواجهة التشكيك صعبة ولها كلفة لكن لا يمكنها أن تكون «أمنية» فالأمني هنا يخفق تماما لأن «المتهم» في هذه الحالة «غير مجسد» ولأن اعتقال أو محاكمة عشرات الآلاف من الأردنيين « غير ممكن»
لا يمكن هكذا وببساطة القبض على المشككين.. يمكن فقط الشعور بتأثيرهم السيئ لأن التشكيك في حالتنا الوطنية اليوم «أفقي» ولم يعد عموديا تماما مثل «كل مشاكلنا» وظواهرنا السلبية والتحديات التي تبدأ صغيرة ثم سرعان ما تكبر أثناء الادعاء بمواجهتها.
عندما تشتكي «القيادة» للمرة الثالثة من التشكيك على بقية المؤسسات أن تستيقظ وتقوم بواجبها وتبدأ تدشين ورشة العمل للوقاية من عاصفة التشكيك التي تلتهم الأخضر واليابس مع التسليم دوما طبعا بوجود «أجندات مشبوهة» تستهدف الأردن والأردنيين في كل الجوار الإقليمي كانت دائما موجودة وكنا كأردنيين نتكفل بها.
بكل بساطة أعمل في الميدان منذ ربع قرن ولم أر يوما حجما من صناع التشكيك الذي يشبه فوضى الحواس يتحشد في زاوية «نخب القرار والمؤسسات» كما أرى هذه الأيام.
نخالط رموز الدولة والسياسيين والوزراء والموظفين العلنيين والسريين يوميا ونقابل التشكيك بأبهى صوره وأخطرها وهو المزنر بالمعلومات من هؤلاء قبل غيرهم .
كنا راقبنا أيضا الرسالة القوية ضد «تسريب الوثائق والشائعات» وفوجئنا بأن التعميم الرسمي الداخلي الذي صدر لمحاسبة مسربي الأوراق تم «تسريبه» هو الآخر بعد ساعات.
بصراحة وبالقياس إذا أردنا «قمع التشكيك» وتقليص المشككين والتصدي لهم لابد من خطوات أساسية وبسيطة :
إقناع كبار الموظفين وأهم 500 شخصية في البلاد قبل غيرهم بوقف التشكيك بكافة أساليبه الملتوية والفصامية.. هنا يمكن ذلك بقرار فقط.
الإقرار وبجرأة وطنية مسؤولة بأن «انتقاءات وخيارات وانحيازات» البوصلة الأمنية في الماضي على صعيدي البرلمان والإعلام والبيروقراط هي الوصفة الأقرب لصناعة التشكيك وتنطبق عليها معايير القول المأثور.. «استرخص اللحم واندم على المرق»… هنا ضربت وبقسوة آليات إنتاج النخب وأصبح المشهد أقرب للفيل في حقل الجرار.
وقف الارتجال والعشوائية والنخب الطيارة واسعة الصلاحيات في الظل والعودة لتفعيل الزعامات والرموز الوطنية البرامجية ووقف الرهان الوطني على الطارئين والمراهقين ورموز الشللية والغرباء.
تعشيب المؤسسات ضروري للتخلص من التشكيك.
باختصار ومن الآخر وبصراحة… التشكيك هو نحن الأردنيين و«صعب القبض علينا جميعا» ويعني ذلك أنه صناعة محلية بامتياز يستثمر فيها الغريب والأجنبي والإسرائيلي وأحيانا الشقيق في الجوار عبر الأجندات.
أفهم شخصيا توجيهات المؤسسة والقيادة بخصوص مواجهة المشككين باعتبارها دعوة لنا جميعا للعمل بالمستوى الوطني حتى يقوم كل بواجبه.
مجددا لا يوجد أمام الأردنيين إلا خيار واحد …التحلق حول مؤسساتهم والالتفاف حول دولتهم وقيادتهم .
لكن بالمقابل على مؤسسات القرار أن تسمح للشرفاء والمخلصين من غالبية الأردنيين بالعمل وعلى أساس الشراكة لحماية وطنهم ودولتهم وتجربتهم .
الدفاع عن الموقف الملكي النبيل والفروسي في قضية القدس ورفض مشاريع التوطين والوطن البديل يستوجب أن تفتح الدولة على الجميع حتى الذين لا تحبهم.
إذا أدركت مؤسسات القرار ذلك ستجد ملايين الأردنيين في حالة «الاستشهاد» والتخندق دفاعا عن الخيار والدولة والمشروع والقيادة ولن يقتصر الأمر على استعراض كان يمكن الاستغناء عنه لمجموعة دراجات نارية غالية السعر وسيارات همر مع بضعة أشخاص من أجل القدس.
وإذا حصل الأمر يكون تدشين الجاهزية في تثبيت «ثلاثية كلا» قد بدأ فعلا وجديا.