أبو عودة والأردن: الكراهية ليست «جائزة»
فقدان مفكر كبير من وزن عدنان أبو عودة يعني للأردنيين عموما فقدان «رفيق» في أي رحلة لها علاقة بالاستكشاف أو التعقيب على نص أو تحليل، حيث الجندي الأول المحترف في محراب العلم والمعرفة والمعلومة بين الذين عرفتهم
أدهشتني حالة «التنكر الرسمي» الملحوظة للراحل الأردني عدنان أبو عودة في مماته كما كانت في حياته خلال آخر 20 عاما على الأقل أعتبر نفسي مهنيا من الشاهدين على الكثير من تفاصيلها.
لا «نعي لائق» باسم الدولة التي خدمها الرجل لـ50 عاما…لا تكريم.. لا مراسم.. لا تسمية مقعد أو مركز أو حتى شارع بلدي… لا ندوات بحثية عميقة لمفكر طويل القامة ذهنيا ويشكل – وتلك شهادة مهنية أحيط بكل تفاصيلها شخصيا- أكثر ذاكرة تراثية سياسية صراحة وجرأة في التشخيص والعرض في النصف الثاني من مئوية الدولة الأردنية.
على كل حال ما هي حاجة «الموت» لكل ذلك؟.. اختصر علينا الدكتور مروان المعشر طريق الاشتباك عندما سجلها بإنصاف قائلا: «أبو السعيد رحمه الله بقي في منزله المتواضع 50 عاما ولم يتعين أي من أولاده في وظيفة عمومية، ولم يحظ بأي امتياز رغم علمه الكبير».
إنصاف مثقف سياسي كبير ترك للأردنيين تراثا متكاملا مسألة لا تنفع الراحل ولا عائلته، بل تخصنا نحن الأحياء، لأنها باختصار تدلل على كيفية تعامل المؤسسات الرسمية التي نقدرها ونحترمها مع طبقة رجال الدولة والمفكرين الأساسيين، خصوصا من أصحاب الرأي المستقل والآخر والجريء.
تجنبا لمزالق «الثرثرة على ضفاف الحقيقة» لابد من تذكير رموز ثقافة «الكراهية السياسية» سواء كانوا في الوظيفة الرسمية أو خارجها بأن الإصرار على التعامل مع كراهيتهم وكأنها «جائزة» استرسال في سلوك منحرف، فالكراهية «عبء» بكل حال ولا يمكنها أن تصبح يوما جائزة من أي صنف.
غياب الراحل «أبو السعيد» ترك فجوة لابد من تأملها وطنيا، فالرجل الذي تنشر معالجاته في أرقى بيوت العلم والبحث الكونية، ويحاضر في أعرق جامعات الغرب وتترجم مؤلفاته لعدة لغات، ضاق به يوما مقر رئاسة الوزراء وأحاله للقضاء بلائحة متهالكة، كما ضاقت به مؤسسات بلاده التي «لا تحتمل» قدرته على التحدث بصراحة عن «ما يجري» وعن «ما سيجري» لاحقا.
بصراحة كأردني لا أعرف سببا من أي نوع يقنعني بأن سياسيا محنكا من وزن الراحل أبو عودة تقرر دولته ولربع قرن تقريبا أن»لا تستفيد من خبرته» وأن لا تشاوره.
أي ظلم هذا ينتجه «المراهقون» وخبراء «الإقصاء والإبعاد» بحق الدولة التي يتشدقون بالولاء لها، فما أعرفه شخصيا أن أبو عودة وفي آخر 10 سنوات على الأقل حضر لمرة واحدة فقط بين مئات جلسات المشاورات المغلقة، وظهر على شاشة تلفزيون الحكومة لمرة واحدة، ونظمت له «صحيفة حكومية» أيضا ندوة لمرة واحدة، تحدث فيها عن كتاب لزميل له من الحرس القديم.
فقدان مفكر كبير من وزن عدنان أبو عودة يعني للأردنيين عموما فقدان «رفيق» في أي رحلة لها علاقة بالاستكشاف أو التعقيب على نص أو تحليل، حيث الجندي الأول المحترف في محراب العلم والمعرفة والمعلومة بين الذين عرفتهم
حتى الجامعات فتحت له قاعاتها لمرة واحدة، وكذلك نقابة الصحافيين وكأن «الشيخ الذي يدير أمور حلقات الذكر» يقول ضمنيا بأن «الوطن لا يستطيع الاستماع لشخصية من وزن أبو عودة إلا لمرة واحدة حصريا».
نحتاج لأن نعيد تقييم موقفنا في ملف «أزمة الأدوات» والإلحاح على عدم الإصغاء لأصحاب الرأي الصريح الصادق.
في أحد المسلسلات لفت نظري المؤدي وهو يقول لابنته: الألوان ليس فقط الأسود والأبيض أو الرمادي… يوجد في الحياة لون اسمه «الأخضر».
واحدة من أبرز مشكلات «الرسمي» الأردني هي طول الإقامة في «الرمادي» بالتزامن مع اللعب بورقتين بيضاء وسوداء فقط.
الفراغ كبير في الحالة النخبوية والثقافية الأردنية ورحيل أبو عودة يزيده تعقيدا، وفي حال تعقيب رسائل رحيلنا الفقيد لابد من التذكير بأن «الشرخ» كبير، وبأن الحاجة ملحة للاستدراك وتمكين بعض «المخلصين» من أبناء الخبرة والتجربة من المساهمة في الحفاظ على «الدولة التي صنعوها أو خدموها».
في المستوى الرصدي أسرني إصراره العنيد عندما يكرمني بزيارة دورية للمكتب على منعي من «مرافقته» إلى باب المصعد أو حتى إلى سيارته. يشير إلى «عكازة أنيقة» يحملها ثم يبتسم قائلا: «معها لا حاجة لك ولغيرك». في الأثناء يحتسي فنجانا واحدا من القهوة ويتناول سيجارته الرفيعة جدا ويستأذن بلياقة الكبار عند الحضور والمغادرة، ونتحدث بكل شيء.
يأسرني أيضا بقدرته على الاستذكار والسرد، وسأفتقد بالتأكيد بعد الآن تلك النظرة الثاقبة التي يغلق فيها الجفن متأملا، حتى نصل لتعريف مناسب لمصطلح أو مفهوم أو مفردة باللغتين.
لا أذيع سرا إذا قلت إن فقدان مفكر كبير من وزن عدنان أبو عودة يعني للأردنيين عموما فقدان «رفيق» في أي رحلة لها علاقة بالاستكشاف أو التعقيب على نص أو تحليل حيث الجندي الأول المحترف في محراب العلم والمعرفة والمعلومة بين الذين عرفتهم.
أدهشني مرارا وهو يستفسر ويتوثق حتى ولو من «معلومة صغيرة» حتى يصنفها لاحقا.. «لا هي عادية أو أبدا هي مهمة كتير».
لا أعتقد إطلاقا بأن أبو السعيد يمكن أن يعوض أو يستبدل ولم أسمع أو أرصد من هو أكثر منه عمقا في تحليل «الصهيونية» وتركيبة الصراع وفي فهم الأردن وفلسطين والإقليم.
خسره الجميع في الأمة وفي الوطن وخسر كل من لم يسمعه حقا وهو ينصح.