الأردن: تجنب الاشتباك المباشر مع حكومة إسرائيل… و«إغاثة غزة فقط»
عمان ـ «القدس العربي»: قللت أدبيات الخطاب الرسمي الأردني بصورة ملموسة خلال الأيام القليلة الماضية مع الاحتفاظ طبعاً بالثوابت، من مساحات الاشتباك المباشر والصدام في مواجهة حكومة إسرائيل في الوقت الذي ظهرت فيه ملامح توصف رسمياً أنها عقلانية أكثر تحت ستار الكمون التكتيكي إلى أن يتطور الموقف الأمريكي خلف الستائر في اتجاه تبني دعوات حاسمة أكثر لوقف إطلاق النار.
تركيز الأردن على رمزية المساعدات وعلى اللغة الأقل تصعيداً، خصوصاً في المساحة الدبلوماسية، بات ملموساً في المقابل، ويخدم استراتيجية تكتيك الانتظار والترقب والتركيز على الإنسانيات، خصوصاً أن الجميع لاحظ أن حكومة بنيامين نتنياهو تنجح في مقاومة سيناريو الجسر البري الأردني لإيصال المساعدات حتى اللحظة على الأقل.
ضمنياً وسياسياً، يتفاعل الأردن أكثر مع المنطق القائل بالانخراط في الإغاثة والمساعدات وتجاهل الجلوس على الطاولة السياسية في الملف الفلسطيني، مع وجود تواصل وتنسيق حيث تدعم عمان عن بعد اتصالات ومشاورات ومفاوضات الهدنة، لكنها لا ترغب في الانخراط في أي دور وساطة.
في السياق نفسه، لا يبدو أن عمان السياسية والدبلوماسية لديها تصور تفصيلي عن موقف الحكومة المصرية تحديداً من فكرة طرح بديل عن معبر رفح عبر جسر الأغوار الأردنية، فيما يبقى العنصر المصري في ملف المساعدات وإغلاق المعابر من أكثر العناصر المثيرة للحيرة بالنسبة للتوازنات الأردنية.
في مسألة الوساطة، سمعت «القدس العربي» مباشرة من بعض أهم قادة حماس مثل خالد مشعل وإسماعيل هنية، دعوات مباشرة لانخراط عمان في ملف الوساطة واستعداد من الحركة للاستجابة والتفاعل. لكن الأردن قرر مبكراً أن مسألة التواصل من أجل الوساطة أو غيرها مباشرة مع فصائل المقاومة لا تدخل في نطاق اهتماماته، بل يفضل البقاء بعيداً، وسط ازدياد القناعة التي سبق أن عبر عنها بحضور «القدس العربي» الوزير السابق والبرلماني مازن القاضي، بأنه لا حلول في نهاية المطاف من أي صنف غربي نهر الأردن بدون شرقه.
كثيرون في إطار النخبة الأردنية يعبرون عن قناعتهم اليوم بأن تجنب الزحام في الجلوس على طاولة مفارقات العدوان الإسرائيلي على غزة وتداعيات ما بعد 7 أكتوبر يخدم في خلفية القرار الأردني استراتيجية الجلوس على الطاولة بدلاً من الوقوف في الغرفة فقط مستقبلاً، وعندما يتعلق الأمر بمفاوضات المشهد الختامي للملف الفلسطيني ولملف الصراع برمته التي ستأتي حتماً.
وقد عبر ساسة ورسميون أردنيون كبار في أحاديث متنوعة، من بينهم رئيس مجلس الأعيان فيصل الفايز ورئيس وزراء الأسبق علي أبو الراغب وغيرهما، عن قناعة راسخة بأن عواصم القرار الدولي الفاعلة عندما تبدأ مرحلة الفك والتركيب والحلول ستصغي للخبرة الأردنية والتعامل مع الجغرافيا التي تحكم الاعتبارات.
يعني ذلك بالنتيجة أن انخراط الأردن في لوجستيات الإغاثة هدف بحد ذاته يخدم تجنب غرفة الوساطة التكتيك الأردني في حماية المصالح والدور بدلاً من المزاحمة في مرحلة يبدو فيها الغطاء الأمريكي والأوروبي حائراً.
ويتخللها مشهد يمكن الاستمتاع به أثناء الانتظار، برأي سياسي أردني بارز تحدث لـ «القدس العربي» وفكرته مشاهدة الثور الإسرائيلي الهائج الجريح بدلاً من مناطحته مرحلياً. لذلك، الاعتقاد راسخ بأن الخبرة الأردنية العميقة تندفع في اتجاه الوقوف عند محطة توجيه رسائل هنا أو هناك، وترك الإدارة الأمريكية تقوم باختباراتها البائسة أحياناً، والثور اليميني الهائج في إسرائيل يتفاعل ليدفع الكلفة؛ لأن البدائل في حال الاستمرار في تصعيد المواجهة ضد حكومة بنيامين نتنياهو قد تنعكس على مصالح الأردن الاقتصادية والنفطية أولاً، والحدودية والأمنية ثانياً.
ثمة من يقول اليوم إن عمان تتجنب الزحام على طاولة الفعل والوساطة والتأثير لأنها قررت سيادياً من اللحظة الأولى وحسبة عميقة، قيادة الشارع الأردني في مسألة الاشتباك مع العدوان الإسرائيلي بدلاً من أن يلحق القرار السياسي بالشارع، الأمر الذي أنتج مساحة مناورة كبيرة فكرتها التركيز على الإغاثة والمساعدات لأهل غزة والتصعيد ضد إسرائيل في الخطاب الدبلوماسي.
مؤخراً، لوحظ في السياق التكتيكي أن وزير الخارجية النشط أيمن الصفدي بدأ يخفف من تصريحاته الحادة ضد إسرائيل دون تغيير في اللهجة طبعاً.
كما لوحظ أن الإعلام الرسمي الأردني حاول التخفيف من تسليط الأضواء على الرسائل الحادة أو التي تتحدث عن الألم والإحباط جراء جرائم إسرائيل ضد الأطفال، التي وردت حتى في آخر مقابلة لصالح «سي إن إن» سجلتها شخصياً الملكة رانيا العبد الله.
في الأثناء، يقول كبار الوزراء في الحكومة خلف الستائر إن بقاء حركة الترانزيت في اتجاه الكيان من بعض دول الخليج رغم الاعتراض الشعبي الحاد للأردنيين ورسالة مقايضة مضمونها ألا يتخذ اليمين الإسرائيلي قراراً مربكاً ومفاجئاً بوقف ضخ الغاز للأردن، وأن تمكين بعض السماسرة من نقل أطنان من الخضروات إلى إسرائيل هدفه الأبعد ضمان إدخال شاحنات مساعدات لغزة.
قد تبقى تلك مجرد تبريرات ذرائعية، لكن استراتيجية قيادة الشارع بدلاً من تمكينه من قيادة الحكومة تبدو منتجة حتى الآن. وفلسفة خطوات إعادة التنظيم بمعنى التصعيد مرة والاحتجاب مرة أخرى دبلوماسياً وإعلامياً، تهدف لما وصفه الوزير الصفدي عندما تناقشت معه «القدس العربي» بإدارة التوازنات والمصالح ومواجهة الأولويات، لأن العدوان الإسرائيلي ينتج يومياً التحديات المستجدة التي تجعل نظام الأولويات مرتبطاً زمنياً بمرونة هنا واستدارة هناك.